عرفت خوارزميات “تيك توك” اهتمامي بطريقة صنع الفيديوهات القصيرة، فأصبحت محاطًا بعشرات الفيديوهات لمستخدمين وخبراء ومؤثرين، يشرحون طريقة صنع 15 إلى 30 ثانية على تيك توك، لم أتخيل من قبل أن صُنع فيديو بهذه المدة يحتاج إلى كل هذه القواعد، شعرت بالإرهاق والتوتر فقط من شرح هذه الإجراءات وتعقيدها.
الكل يتسابق على خطف انتباه المستخدمين من أول ثانية، البعض يتطرف ويطلب فعل أشياء مشوقة أخرى في الثانية الأولى من المقطع بجانب حديثك المختصر والخاطف، مثل حركة الكاميرا والمؤثرات البصرية وغيرها، والجميع ينصح بذلك، لأن جمهور تيك توك لا يرحم ولا يصبر ولن ينتظرك. شاهدت بعد ذلك مقاطع تبدأ وتنتهي في غمضة عين، تدفعك إلى تكرارها عديد المرات لكي تقرأ المكتوب عليها أو تفهم رسالتها، اكتشفت بعدها أنها خدعة أخرى لكي تُحسب عليك مرات المشاهدة، هذا بخلاف قواعد النشر التي تنصح بنشر فيديوهات يومية في أوقات مختلفة لأن غيابك لأسبوع مثلًا معناه أنك خارج الزمن وعليك العودة للبدء من جديد!
هذا بالنسبة لمستخدم عادي مثلي، ماذا لو كنت موسيقيًا أو مطربًا وأردت استخدام تيك توك لمشاركة أعمالي أو تقديم موهبتي للجمهور؟ ما مقدار العمل والتركيز المطلوب لصنع موسيقى جذابة وخاطفة في أقل من 15 ثانية؟ وهل هي كافية لوحدها أم علي تعلم الرقص والمونتاج والمؤثرات البصرية والقفز والكوميديا والمقالب وغيرها في نفس الوقت؟ وكم فيديو أنتجه يوميًا حتى لا ينساني الجمهور؟ عملية مرهقة وسباق للظهور بلا نهاية، ولكن هذا هو الحال والواقع وعليك تقبله.
أزهى عصور تيك توك
إذا كنت تعتقد أن تيك توك غير مؤثر أو غير مهم حتى الآن، فإن المنصة الصينية الصاعدة بسرعة الصاروخ، هي المنصة الاجتماعية الأكثر استخدامًا في العالم خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، بأكثر من مليار ونصف مستخدم حتى 2023، مع توقعات بجلب نصف مليار آخرين مع مطلع 2025. تيك توك هو الأكثر في كل شيء: الأكثر في عدد المستخدمين الشباب من جيل زد، بأكثر من 62% من جملة المستخدمين، والأكثر في عدد المستخدمين النشطين بأكثر من 325 مليون مستخدم نشط شهريًا، وكذلك الأكثر في عدد ساعات الاستخدام، حيث يبقى المستخدم أمام شاشة تيك بمتوسط 90 دقيقة يوميًا، الأكثر من يوتيوب ومن جميع منصات التواصل الاجتماعي الأخرى.
اللافت في إحصائيات استخدام تيك توك، هو أن مصر الدولة رقم 11 في قائمة الأكثر استخدامًا له، بأكثر من 37 مليون مستخدم، وهي الدولة الأولى عربيًا، قبل السعودية والعراق، في المركزين 13 و14 على التوالي. تشير هذه الإحصائيات إلى أن تيك توك هو المنصة الرئيسية عربيًا، خاصة أن منطقة الشرق الأوسط عامة هي ثاني منطقة استخدامًا للموقع مع قارة آسيا، واقع لا يمكن تجاهله، وكنز بالنسبة للمسوقين وأصحاب الأعمال والمواهب، خاصة حين تعرف أن مليار ونصف مستخدم يتلقون محتويات من 2 مليون مستخدم فقط، ومن 7 مليون شركة على الأقل!
كان ما حدث للأغنية وتحولها إلى محتوى تفاعلي رائج حول العالم نموذجًا أوليًا لما أصبحت عليه صناعة الموسيقى الآن في عصر تيك توك
يرتبط تيك توك مع الموسيقى ارتباطًا يجعل المنصة تبدو كأنها جاءت من أجل الموسيقى والرقص من الأساس، حتى أن بداية التطبيق كانت من خلال تطبيق”Musical.ly” الذي أتاح للمستخدمين مزامنة الشفاه مع كلمات الأغاني فقط، قبل أن يستحوذ تيك توك على ميوزيكالي في وقت ذروة التطبيق في 2018، وبداية صعود تيك توك وقتها. أصبحت فيديوهات ميوزيكالي الآن شيء من النوستالجيا، لو تتذكرون فيديوهات المراهقين رديئة الجودة، على أغاني المهرجانات، قبل ظاهرة “تحديات الرقص”، والتي أصبحت أيضًا من النوستالجيا.
بداية عصر ارتباط الموسيقى بتيك توك كانت مع تحدي رقصة “كيكي” في 2018، والتي أصابت المشاهير والمستخدمين بالهوس، وظهر الملايين وهم يترجلون من سياراتهم أثناء سيرها للرقص على أنغام أغنية “In My Feelings” للمغني دريك، عرفت الأغنية بعد ذلك بعنوان آخر ” Kiki Do You Love Me” نسبة إلى المقطع المتداول في الفيديوهات الراقصة، كان ما حدث للأغنية وتحولها إلى محتوى تفاعلي رائج حول العالم نموذجًا أوليًا لما أصبحت عليه صناعة الموسيقى الآن في عصر تيك توك.
الموسيقى كصناعة محتوى
وقتها لم يكن معظم راقصي كيكي حول العالم يهتمون بمعرفة مصدر هذا التحدي ومعناه وما علاقته بالأغنية، وماهي الأغنية الأصلية من الأساس، حينها بدأ التحدي بفيديو راقص من الكوميديان “Shiggy”، أحد المشاركين في كليب أغنية دريك، ولم يكن يستخدم في الفيديو سيارة، ولكن مع تقليد رقصاته من المستخدمين تحول الأمر إلى هذا الشكل ولا يعرف أحد كيف وصل الأمر إلى هذا التحدي. هكذا هو الحال الآن في الأغاني والأصوات والرقصات الرائجة على تيك توك، لا نعرف معظم مصادرها وكيف بدأت ومن أول شخص قام بفعل ذلك ولماذا هي رائجة.
أصبحت تسمى هذه الدورة بالمحتوى الذي ينتجه المستخدم، أو اختصاراً “UGC”، وأصبح المصطلح الرائج الآن في الأوساط الفنية والإعلامية حول العالم نظراً لتأثيره على أساس الصناعات الإبداعية، بعد أن أعطى تيك توك للمستخدمين القوة في إعادة تشكيل الأعمال الفنية بطريقتهم وليس فقط تفسيرها والتفاعل معها بطريقتها، فدريك حينما أطلق أغنية لم يكن يعلم أن الحال سينتهي بها بتحدي راقص بالسيارات وتختزل الأغنية في جملة واحدة، وتتسبب في تحذيرات أمنية رسمية من خطورة رقصاتها في الشوارع، ولم يعرف أنها ستغير حياة الآلاف من الأفراد العاديين بعد تحقيقهم شهرة على تيك توك وأصبحوا فيما بعد “تيك توكرز” و”صناع محتوى”.
مع الوقت أصبحت الموسيقى أداة من أدوات صناعة المحتوى لهؤلاء، بجانب التصوير والمونتاج والرقص والمؤثرات البصرية وغيرها من الأدوات، وتشير إحصائيات أن 65٪ من جميع مقاطع الفيديو على تيك توك تستخدم الموسيقى كخلفية بها، لذا إذا كان هناك صوت رائح فعلي الجميع استخدامه كخلفية في فيديوهاتهم بغض النظر عن أي شيء، انتبه المطربون في البداية لهذا التوجه واعتقدوا أن الجمهور يحتاج إلى الأغاني الراقصة التي تدفعهم إلى التفاعل معها بالرقص، وانهالت علينا وقتها موجة من الأغاني المصممة خصيصًا للعرض التيكتوكي، كانت أبرزها أغنية “مافيا” لمحمد رمضان في 2019، ولكن بعد ذلك اكتشفنا أن التفاعل ليس حكرًا على الأغاني الراقصة والاستعراضات أو الأغاني الجديدة بشكل عام.
إعادة استهلاك الموسيقى
فشلت معظم الإنتاجات العربية في تلك الفترة في مجاراة تيك توك، أطلق العديد من الفنانين أغاني بمواصفات تيك توك، مقسمة إلى مقاطع قصيرة منفصلة وراقصة، وشجعوا الجمهور على استخدامها وإطلاق تحديات راقصة، ولكن بعدما أصبحت موضة قديمة، بدا الفاعلين على تيك توك يستخدمون الموسيقى بطريقة أكثر تفاعلية عن السابق، لم تعد محتوى للرقص فقط، ولكنها أصبحت مثل السيناريو الذي يحوله المخرج إلى صورة، التيك توكرز كالمخرجين الآن، يعالجون الأغاني والموسيقى بصريًا بشكل تلقائي وروتيني، بناء على نوعية المحتوى المقدم.
على سبيل المثال، طرح الرابر المصري مروان موسى نسخة صوتية لأغنيته “حدوتة ألماني” في 2022، بدون كليب أو دعاية، وجدت الأغنية طريقها إلى شابة مصرية تهوى التمثيل تدعى حبيبة النجار، التي حولت الأغنية إلى مشهد تمثيلي بتقليد أداء الممثلة عبلة كامل، اتخذت الأغنية شكلًا آخر وبعدًا بصريًا لم ينتجه أو يفكر به مروان موسى من الأساس، وفي النهاية أدى الفيديو إلى تحول حبيبة النجار إلى واحدة من أشهر التيك توكرز المصريين حاليًا.
أصبحت جميع الأعمال الموسيقية التي أنتجها البشر في تاريخهم تنتظر فرصة إعادة اكتشافها ودمجها في صناعة المحتوى واستهلاكها من جديد على تيك توك
ولكن مروان موسى كان أوفر حظًا من المطربة دنيا وائل، التي أطلقت أغنيتها “العسل” في نفس الفترة، ولكنها فوجئت برواج أغنيتها على تيك توك بعد استخدام مقطع منها كتلميحات جنسية أحيانًا أو في كمشاهد درامية أخرى، وكان المقطع “النور قطع.. اللي خفنا منه حصل”، وهو مقتطع من سياقه الأصلي “جوانا النور قطع.. اللي خوفنا منه حصل، انتهى صلاحية العسل”، وفوق ذلك كان المقطع الرائج معدل صوتيًا من المستخدمين أنفسهم، وهو ما حرم دنيا وائل من رواج صوتها الأصلي، للدرجة أنها سخرت من تحويل صوتها إلى “صوت سنجاب” وعدم معرفة المستخدمين بالأغنية الأصلية ومعناها ولا هوية صاحبتها.
دفع الاحتياج إلى المحتوى مستخدمين آخرين في تحويل الموسيقى الكلاسيكية إلى محتوى أيضًا، رغم مرور عشرات السنين عليها، تحولت مع “تيك توك” إلى منتج آخر قابل للتفاعل والاستهلاك. فلم يكن يتخيل الراحل محمد عبد الوهاب أن تصبح مقطوعته الموسيقية “زينة” صوتًا رائجًا في “تيك توك” في 2024 بعد أكثر من 68 عاماً على إنتاجها، بعد أن فسرها الشاب أحمد باسم بطريقة كوميدية بتخيل أنها حوار نميمة متصاعد مع والدته، ذهبت بذلك الموسيقى إلى مكان آخر، وحقق الفيديو الخاص به أكثر من 3 مليون مشاهد، في حين النسخة الرسمية للمقطوعة على يوتيوب لم يستمع لها أكثر من 33 ألف مستمع!
قلد العشرات بعد ذلك الفيديو بطرقهم الخاصة على نفس الموسيقى، بتخيل مواقف درامية أخرى، وقد تظن أن عودة الموسيقى المنسية أو من أزمان أخرى لتيك توك يجب أن تكون مدفوعة بتخيل كوميدي أو بإعادة تفسير مثل النموذج السابق، ولكن لا يوجد قاعدة على تيك توك، فهناك ظاهرة جديدة بوجود مستخدمين أصبحوا مشاهير بمحتوى ثابت، فقط ينشرون فيديو لهم وهم يتمايلون على موسيقى لأغاني قديمة وغير شهيرة، ويتحدون الجميع على تذكرها، تحت مسمى “أغاني جيل الطيبيين”، غالبًا ما تكون هذه الأغاني من فترة التسعينيات التي تعود إلى السطح بفضل دخول أبناء هذه الفترة في منافسة صناعة المحتوى أيضًا.
تفاعل المستخدمين مع الأغاني وتقديم تصوراتهم الخاصة عنها لا ينتهي، تمتد إلى تصورات فنية للأعمال نفسها، مثل إعادة غنائها أو إعادة توزيعها واستخدام الذكاء الاصطناعي في إضافة مؤثرات صوتية أو عمل دويتوهات بين المطربين، كانت هذه التعديلات سببًا في شهرة البعض، مثلما حدث مع المغني الشاب فريد، صاحب الصوت التريند “لو جاي في رجوع إنساني”، بعدما دمجها البعض بأغنية تامر عاشور “قولوله سماح”، واستخدم الاختلاف بين المقطعين في موجة فيديوهات تحفيزية للمستخدمين حول التحولات الجذرية التي طرأت على شكلهم وأعمالهم ومستواهم المادي والاجتماعي بعد تعرضهم للرفض.
أصبحت جميع الأعمال الموسيقية التي أنتجها البشر في تاريخهم تنتظر فرصة إعادة اكتشافها ودمجها في صناعة المحتوى واستهلاكها من جديد على تيك توك، لم تعد هناك مواصفات محددة للأغنية اللائقة على تيك توك، رغم المحاولات لفهم سلوك المستخدمين وخوارزميات المنصة، والعنصرين يتغيران باستمرار، فمقابل موسيقى محمد عبد الوهاب وأغاني أم كلثوم، هناك من يستخدم مقطوعات باخ وموتسارت في إنتاج محتويات كوميدية أيضًا، وهناك من يعيد إنتاج رقصات مايكل جاكسون، وهناك من ينتج محتوى يتخيل به كواليس إنتاج هذه الأغاني من الأساس.
يمكن استنتاج الرابط بين معظم هذه الأغاني أنها “أصوات تيك توكية” مثالية، تفضل الفيديوهات القصيرة الدخول في الموضوع مباشرة والتعبير عن الحالة الشعورية بشكل واضح حد الكليشيه، ليس هناك وقت للتفاصيل والمواربة والمعاني غير المباشرة، فعندما تقدم أغنية حزينة ستكون بصوت حزين ومبكي بجمل مباشرة للغاية
وهناك من يستخدم الموسيقى بالصدفة وبدون مناسبة فتتحول إلى أغنية خاصة بالمناسبة التي استخدمها بها، مثل الأغاني المستخدمة في محتويات كرة القدم، التي وصلت إلى المنصات الرسمية والعالمية، مثل استخدام نادي ليفربول لأغاني أم كلثوم أو مزمار شعبي على فيديوهات محمد صلاح، أو في محتويات المستخدمين الآخرين لأغاني أصبحت مرتبطة بكرة القدم وأشهرها أغنية “أيام في العمر”. لا يهتم المستخدمين بمعرفة الأغنية الأصلية ومطربها، فهي في النهاية مجرد “أغنية حزينة على مهارات وأهداف اللاعبين”، الفضل في النهاية يرجع لأول من تذكر المطربة اللبنانية فيفيان مراد وقرر استخدام أغنيتها الصادرة في 2011 في محتوى له علاقة بكرة القدم، القصة المفقودة دائمًا في تيك توك هي المتعلقة بصاحب الصوت الأصلي وأول من ابتكر الشيء الذي يصبح بعد ذلك اعتياديًا ورائجًا.
كانت الأغاني قبل تيك توك تُسمع وفق المزاج والمناسبة، الآن تستخدم وفق المحتوى، الأمثلة لا تحصى على ارتباط أغاني بنوعية محتويات معينة على تيك توك، هناك أغاني للمحتويات الذاتية والتحفيزية مثل “يوم جديد” لأمير عيد، وهناك أغاني للمواقف المحرجة والكوميدية مثل “واقف مصدوم”، وهناك أغاني ارتبطت بأشياء أخرى لا علاقة لها بها، مثل استخدام أغنية أم كلثوم غير المعروفة “نور محياك” بتوزيع جديد من أجل نشر صور شخصية تتخيل ملامحك مع التقدم في العمر!
يمكن استنتاج الرابط بين معظم هذه الأغاني أنها “أصوات تيك توكية” مثالية، تفضل الفيديوهات القصيرة الدخول في الموضوع مباشرة والتعبير عن الحالة الشعورية بشكل واضح حد الكليشيه، ليس هناك وقت للتفاصيل والمواربة والمعاني غير المباشرة، فعندما تقدم أغنية حزينة ستكون بصوت حزين ومبكي بجمل مباشرة للغاية، بجانب بعض الرداءة الصوتية المقصودة، التي توحي بعدم الاحترافية أو بإنتاج الصوت على تيك توك نفسه، تمامًا مثل فلاتر فيديوهات المنصة، لاحظ أن نسبة كبيرة من الأصوات الرائجة معدلة صوتيًا من المستخدمين أو معاد غنائها بأصوات أخرى، في البداية كانت من أجل التهرب من حقوق الملكية وأصبحت بعد ذلك عادة سمعية.
الجانب الآخر من تيك توك
أعاد تيك توك الأمل في إزدهار صناعة الموسيقى من جديد، وإعادة أهمية الأرشيف والكتالوجات الغنائية، بصفتها استثمار مناسب في عصر منصات الاستماع وتيك توك، ولكن الصورة ليست بهذه المثالية، يختلف تيك توك عن منصات الاستماع الأخرى كليًا، الأخيرة هي في النهاية وسيلة الاستماع للموسيقى والمصدر الأول للربح، أفرزت العديد من التأثيرات على صناعة الموسيقى أيضًا، ولكن الجزء الأكبر كان في عادات الاستماع، مثل استخدام الموسيقى كنشاط جانبي للمستمعين، وإتاحة الموسيقى في جميع الأوقات، وإعطاء الفرصة للفنانين المستقلين والأسواق الصغيرة في الاستماع والمنافسة، بجانب ثقافة مقاطع التشغيل التي أفرزت أنواع موسيقية جديدة وعادات استماع جديدة.
ولكن تيك توك ليست منصة استماع، عملت المنصات مع تيك توك على تقصير طول الأغنية، فالأولى تسببت في ذلك لرغبة المطربين في دفع المستمعين إلى إعادة التشغيل مرات عديدة من أجل زيادة الأرباح من زيادة الاستماع، والأهم في الأغنية هو أول 30 ثانية بها، لأنها المدة التي تكتفي بها “سبوتيفاي” في حصر نسبة الاستماع، ولكن تيك توك شجع على تقصير الأغنية لأن المطرب يعرف أن المستخدم قد يحتاج إلى أقل من 30 ثانية من الأغنية لصنع محتواه، ولكن ليس بالضرورة أول جزء من الأغنية.
أصبحت هناك أغاني مدتها دقيقة وبضع ثواني، وانخفض متوسط مدة الأغاني بشكل عام عالمياً، بسبب تكاتف تيك توك مع منصات الاستماع في التأثير على شكل وطول الأغنية، وصل التأثير إلى وجود منتجين وأفراد عاملين في صناعة الموسيقى مهمتهم الأساسية اختصار الأغاني، ومع ذلك أفرز تيك توك وجهًا سلبيًا في ثقافة الاستماع، وهو عدم شهرة المنتج الغنائي ككل، قد ينجح مقطع ويحظى بمليارات المشاهدات ولا يعرف أحد منهم بقية أجزاء الأغنية. حدث ذلك بالفعل في النماذج السابقة، وحدث مؤخرًا مع العديد من الأغاني الشهيرة، مثل أغنية “بقولك ايه” للفنانة الصاعدة نورين أبو سعدة.
لذلك ظهرت طبقات جديدة من الفنانين المشاهير على تيك توك فقط، وآخرين مشاهير خارجه يعانون للوصول لأرقام هؤلاء، بالإضافة إلى الضغط الممارس على الفنانين من أجل تحقيق تريند بأغانيهم، وصلت لدرجة شكوى المغنية هالسي من اشتراط شركة الإنتاج عليها تحقيق أرقام معينة على تيك توك مقابل الإنتاج لها
أصدرت نورين أغنيتها منذ 3 سنوات في 3 دقائق و16 ثانية، ونجحت من الأغنية 15 ثانية فقط، وهي الجملة الارتجالية في الأغنية أساسًا، نحن أمام طريقة جديدة في التفاعل مع الأغاني، بداية من عصر الحكم على الألبوم بشكل كامل، إلى الحكم على الأغنية كاملة، إلى الحكم على أجزاء من الأغنية. بالطبع يؤثر هذا الاستقبال على طريقة صنع الأغاني وقد تصبح في المستقبل القريب عبارة عن 60 ثانية فقط كوحدة واحدة مناسبة لمتوسط طول فيديوهات تيك توك.
كشف هذا العامل الجديد، جانب آخر من تيك توك، وهو عدم أهمية المطرب والعمل الفني مقارنة بأهمية فيديو المحتوى، مما يفسر سبب عدم شهرة أصحاب الأغاني الرائجة وعدم الاهتمام بهم، ويشكك في قدرة تيك توك على صنع نجوم وفنانين جدد، وفي حال حدث الاهتمام بالفعل بصاحب الصوت الرائج، فإن الاهتمام الذي لاقاه في الصوت الرائج قد لا يتكرر معه مرة أخرى، وفي الأغلب سيُنسى بعد أيام معدودة بعد ظهور أصوات رائجة أخرى وسط فيضان صناعة المحتوى الذي لا يتوقف، خاصة أن الذاكرة هنا بصرية أكثر منها سمعية، ومع ذلك قد لا نتذكر أغلب المقاطع التي شاهدناها في اليوم التالي!
أعاد تيك توك الأغاني القديمة والأرشيف للاستخدام مرة أخرى، في الوقت الذي يجعل به النجوم الجدد قدامى في غضون أسابيع قليلة، يحقق تيك توك نجومية سريعة ولكنها قصيرة الأمد، ربما بفضل الخوارزميات التي تساعد الجميع في تحقيق ملايين المشاهدات سريعًا وربما بدون قصد أو تخطيط أو محتوى يستحق، ومع تغيرها يجد هؤلاء أنفسهم في صحراء بلا مشاهدات أو تريند. الآن نحن نتحدث عن تريندات في 2018 و 2022 بصفتها من الماضي، عملية محبطة بالطبع ومدمرة للنفوس الهشة، ومحبطة بدرجة أكبر للفنانين الذين آمنوا بتيك توك وعدالته وأرقامه، خاصة أن شركات الإنتاج أصبحت تعرف هذه الحقيقة وباتت لا تلتفت إلى الأصوات الجديدة لمجرد رواجها، كما كانت تفعل في بداية تيك توك، لأن ذلك لا يعني أنهم مشروع نجوم جدد. قد لا تتذكر على سبيل المثال المطرب أحمد سالم، الذي اشتهر بغنائه لوردة أثناء عمله في “النقاشة“، كان ذلك محتوى جديدًا وفعالًا، ولكن حينما اتجه إلى الغناء بالفعل والإنتاج له لم يحقق أي صدى.
أعطى تيك توك أصحاب المواهب فرصة كبيرة في تقديم أنفسهم وتكوين معجبين، وساهم في جعل نشر الأغاني أكثر سهولة، ولكنه يشكل ضغطاً على الفنانين خاصة ممن حققوا نجاحهم خارج تيك توك، لأن دخول تيك توك يعني أن تلتزم بقواعده وتخلص لخوارزمياته حتى تكافئك. لذلك ظهرت طبقات جديدة من الفنانين المشاهير على تيك توك فقط، وآخرين مشاهير خارجه يعانون للوصول لأرقام هؤلاء، بالإضافة إلى الضغط الممارس على الفنانين من أجل تحقيق تريند بأغانيهم، وصلت لدرجة شكوى المغنية هالسي من اشتراط شركة الإنتاج عليها تحقيق أرقام معينة على تيك توك مقابل الإنتاج لها.
الضغوط الأخرى تكمن في الخوارزميات التي تجبرك على النشر اليومي وإنشاء فيديوهات قصيرة جذابة والتفاعل مع الجميع والتواجد باستمرار حتى تضمن ظهورك على المنصة. هذا يعني تحول صناعة الموسيقى إلى صناعة إعلانات وتسويق أكثر منها عملية إبداعية فنية، خاصة أن الأرقام لا تعني شيئًا في تيك توك، فتحقيق مليون مشاهدة وأكثر ليس رقمًا يعتد به، الجميع بإمكانه تحقيق ذلك، ولكن المقياس هو كم فيديو تم إنشائه على هذا الصوت؟ يدفع تيك توك للفنانين مقابل عدد فيديوهات المستخدمين وليس على نسب المشاهدة، على عكس يوتيوب والمنصات الأخرى، ومتوسط الفيديو الواحد 3 سنتات.. فكم فيديو تحتاجه كمطرب من المستخدمين لكي تحقق ربحًا معقولًا؟
الموسيقى في خدمة الخوارزميات
أنتجت خوارزميات تيك توك طريقة جديدة في الدعاية، في السابق كان الأمر مقتصرًا على الدفع للمشاهير على منصات التواصل الاجتماعي للترويج للأغاني والحديث عنها وتشجيع الجمهور على استخدامها، وكانت عملية مكلفة. الآن كل مستخدم على تيك توك هو مؤثر بحد ذاته، ولا يحتاج سوى بضع دولارات لاستخدام الأغاني في فيديوهاته للترويج لها، يدفع الفنانون والشركات للمئات من هؤلاء فقط مقابل إضافة الأغاني كخلفية في فيديوهاتهم أملًا في دفع الآخرين إلى استخدام نفس الصوت، فتزيد الفيديوهات والأرباح.
الميزة التسويقية في تيك توك أنها صعبة الرصد والملاحظة، فكيف تعرف أن هذا الشخص يستخدم هذه الأغنية بالتحديد في الفيديوهات لأنها تعجبه وليس لأنه تلقى مقابل ذلك؟ هو غير مطالب بمدح الأغنية وصاحبها، بل قد تكون الحملة التسويقية عبارة عن السخرية من الأغنية والهجوم عليها، هذا في حد ذاته دعاية تدفع لزيادة عدة مرات التعرض للعمل المروج له بغض النظر عن طبيعة رد الفعل. تذكر مجلة “بيلبورد” مثلًا أن 75% من الأغاني الرائجة ورائها حملات مدفوعة وليست تلقائية.
ما يبرر الهوس بتيك توك ليس الطبيعة التفاعلية للجمهور داخل المنصة فقط، ولكن خارجها أيضًا، فمستخدم تيك توك أكثر استجابة للمحتويات الترويجية، إحصائيات المنصة العالمية تذكر أنه مستخدمه أكثر اهتمامًا باكتشاف الموسيقى الجديدة مرتين عن المستخدم الآخر، وأن 62 % من مستخدمي المنصة في أمريكا يدفعوا اشتراكات للموسيقى، و38 % منهم يحضر حفلات موسيقية و45 % منهم يشتري منتجات متعلقة بمطربيهم المفضلين، وما يقارب مثلهم في عدة دول أخرى.
انعكاس النجاح في تيك توك على نسب الاستماع خارجه كانت التحدي الأكبر في صناعة الموسيقى، بعد أن أصبح تيك توك مثل جزيرة منعزلة عن الوسائل الأخرى، جزيرة مليئة بالفوضى والضوضاء، لا تحترم بها حقوق الملكية ولا يحصل أصحاب الأغاني على الملكية الأدبية والتقدير الكافي، ولا حتى على الأموال الكافية
ليس مهمًا جودة الأغاني أو اختلافها، يشجع تيك توك الفيديوهات والأصوات رديئة الجودة أحيانًا، ولكن الأهم الاستمرار في النشر والتسويق بالطريقة السابقة. أحدث مثال على ذلك تجربة المغني “تو ليت”، لم يقدم محتوى تفاعلي أو موسيقى خارقة، ولكن قدم قصة تسويقية بدفع المؤثرين للحديث عن هويته الغامضة واستخدام أغانيه كخلفية لفيديوهاتهم. لم يتحدث أحد عن موسيقاه، بل لم ينتبه أحد إلى ألبومه الأخير، لأن الخطة التسويقية كانت مقتصرة على أغنيتين فقط في الألبوم “حبيبي ليه” و”ماتيجي أعدي عليكي”، وانتقل نجاح الحملة إلى يوتيوب وسبوتيفاي والمنصات الأخرى.
انعكاس النجاح في تيك توك على نسب الاستماع خارجه كانت التحدي الأكبر في صناعة الموسيقى، بعد أن أصبح تيك توك مثل جزيرة منعزلة عن الوسائل الأخرى، جزيرة مليئة بالفوضى والضوضاء، لا تحترم بها حقوق الملكية ولا يحصل أصحاب الأغاني على الملكية الأدبية والتقدير الكافي، ولا حتى على الأموال الكافية، كان من الطبيعي أن تصطدم تيك توك مع امبراطوريات صناعة الموسيقى العالم مثل “يونيفرسال” وغيرها، لأن كل طرف يرى الأمر بطريقته. تيك توك ترى أنها ليست منصة استماع، وأن لها الفضل في الترويج للموسيقى، في حين ترى أطراف صناعة الموسيقى أن تيك توك يقوم بالأساس على هذه الموسيقى ولا بد له أن يدفع أكثر.
منذ عام تقريبًا، أعطى تيك توك لصناع الموسيقى ميزة هائلة، بإضافة خيار الانتقال إلى منصة استماع خارجية في حالة أعجبك الصوت المتداول، خطوة مثل بناء جسر بين جزيرة تيك توك ويابسة صناعة الموسيقى، أو أن تيك توك أعطت شركات الموسيقى حلًا بديلًا عن زيادة الأموال التي تدفعها لهم، بمنطق “انت وشطارتك”. ظهرت نتائج هذه الميزة سريعًا على الأغاني التي تتصدر الترند على تيك توك، بحظيها بنسب استماع مرتفعة على سبوتيفاي في نفس فترة تصدرها الترند، حدث ذلك مثلًا مع صاحبة ترند “بصباصة”، بالاستماع إلى الأغنية أكثر من 2 مليون مرة في شهر فقط، رغم مرور 3 سنوات عليها. نفس الأمر مع أعمال أخرى ارتبط نجاحها على تيك توك بالمنصات مثل أغاني “تووليت” و”صبري قليل” و”كلام عينيه” لشيرين عبد الوهاب، وغيرها.
أخيرًا، قد نرى دور تيك توك في انتشار الموسيقى من جانبين مختلفين، الجانب الذي تزعمه المنصة نفسها في احصائياتها لعام 2024، بتصدر 13 أغنية رائجة على تيك توك من أصل 16 أغنية المركز الأول في قائمة Billboard Hot 100. وقد ترى الجانب الآخر، بأن الأغنية الأكثر تفاعلًا على المنصة هذا العام، “Gata Only”، لم تصل إلى المراكز العشرة الأولى أساسًا، وأن أكثر 10 أصوات تفاعلًا على المنصة، مازالوا مجهولين ولم ينعكس نجاحهم خارج المنصة، باستثناء المركز العاشر لسابرينا كاربنتر، التي كانت نجمة بالفعل. وكذلك قوائم المنصات في المنطقة العربية مازال يسيطر عليها النجوم التقليديين مثل عمرو دياب وتامر عاشور ونجوم الراب مثل مروان بابلو وغيرهم. ونسبة الأغاني التيكتوكية في القوائم لا تذكر، باستثناء “تووليت” وعدد قليل من أغاني المهرجانات.. هنا قد تستطيع القول إن النجم خارج تيك توك نجم داخله وليس العكس!
تأثيرات تيك توك على الموسيقى مازالت في بداياتها، قد نرى العديد من التحولات الجذرية في صناعة الموسيقى بأكملها في المستقبل القريب، مع عدم القدرة على التنبؤ بسلوكيات المستخدمين المتغيرة على المنصة، وخاصة في حال تحقق طموح تيك توك في لعب جميع الأدوار، بإتاحة الفرص لبث الموسيقى وانتاجها والربح منها وتداولها. حاولت المنصة بالفعل ذلك مثلما حدث في تجربة منصة “resso” وخدمة “sound on” قبل إغلاقهما، ولكنها تواجه حربًا من شركات الموسيقى ومنصات البث الأخرى، قد لا تحتاج لهم في المستقبل في حال إنتاج موسيقاها بمفردها واستحواذها على حقوق الملكية بجانب استحواذها الآن بالفعل على انتباه جمهورها.. حينها قد يصبح إنتاج الموسيقى نفسه تفاعليًا وليس استهلاكيًا فقط.