fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

طبخة المجدّرة (١).. وصفة لقراءة بلاد الشام

من العدس والبرغل والأرز إلى خرائط السلطة والتجارة والثورة في بلاد الشام.. هل يمكن لوصفة بسيطة أن تُخبرنا شيئاً عن تعقيد هذا التاريخ؟
ــــــــ الطعام
16 مايو 2025

لتحضير طبق من المجدّرة نحتاج إلى كوب من العدس ونصف كوب من الأرز أو البرغل مع قليل من زيت الزيتون والبصل المُحمّر، ونحو نصف ساعة من الوقت. وصفة سريعة وسهلة التحضير، إلا أنها ليست بسيطة كما تبدو، فهي تخفي خلفها حكاية طويلة نضجت ببطء عبر قرون من التحولات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى في بلاد الشام. تحولات نشأت خلالها طبقات جديدة، واندمجت مجتمعات محلية متباينة عبر مسارات التجارة وأنظمة الجباية، إلى أن استقر هذا الطبق المتواضع أخيراً على موائدنا اليوم.

قصص وأساطير

بفضل مكوناتها الرخيصة وقيمتها الغذائية العالية اكتسبت المجدرة مكانتها كطعام للفقراء، حتى لُقّبت بـ”أكلة الدراويش”، دون أن تغيب في الوقت نفسه عن مطابخ الأغنياء. ورغم هذا الحضور البديهي، يظل تاريخ المجدّرة غامضاً ومحاطاً بالقصص والأساطير، دون أن نعرف تماماً الظروف السياسية والاقتصادية التي أسهمت في انتشارها وتحوّلها إلى طبق شعبي مشترك، وأحياناَ متنازع عليه، بين مدن عديدة في شرقي المتوسط.

ورد ذكر المجدّرة في “كتاب الطبيخ ومعجم المآكل الدمشقية” للبغدادي في القرن الثالث عشر، لكن وصفها آنذاك كان مختلفاً عن شكلها الحالي، إذ كانت تطهى باللحم والسمن إلى جانب الأرز أو العدس، بينما هي اليوم طبقً نباتيً بامتياز.

وربما يكون اليهود قد عرفوا المجدرة أو ما يشبهها تحت اسم “أكلة عيسو”، وهو الصياد ابن اسحق الذي بادل حق بكوريته مع أخيه الأصغر يعقوب مقابل طبق من العدس. وبحسب هذه القصة قد تكون المجدرة واحدة من أقدم الأطباق في شرق المتوسط، وهو أمر محتمل نظراً إلى الاستخدام الموغل في القدم للعدس والقمح والبصل في زراعات المنطقة. كما كانت المجدرة على الدوام حاضرة في الطقوس الشامية المسيحية، أبرزها “اثنين الراهب”، أول أيام الصيام لدى الروم الأرثوذكس في بلاد الشام.

تحضر أيضاً قصص محلية الطابع عن أصل المجدرة واسمها، منها حكاية تعيدها إلى أم أعدّتها لابنتها المصابة بجدري الماء. لاحظت الأم شبهاً بين الأكلة والبثور على وجه ابنتها، فسمّت الطبق مجدرة. وتُعرف المجدرة أيضاً بأسماء شعبية أخرى، مثل “المقدّرة” أو “مسامير الركب” كما في بعض مناطق فلسطين. وهي تشبه أكلة مصرية شعبية “الكشري” الذي لا يملك تاريخاً واضحاً بدوره، وتتباين الروايات بين أصولٍ هندية عرفت طريقها إلى مصر خلال الحرب العالمية الأولى، أو أن الكشري أكلة تعود إلى زمن الفراعنة.

لكن الالتباس لا يقتصر على أصل الطبق فقط، بل يمتد إلى أحد أكثر عناصره إثارة للجدل: هل تُطهى المجدّرة بالأرز أم بالبرغل؟

مواجهة مصيرية

الانقسام بين مجدّرة البرغل ومجدّرة الأرز في سوريا يمكن موضعته إلى جوار الانقسامات الأهلية الكبرى فيها، الطائفية والمناطقية والاثنية، حيث “شعب البرغل” يقف في مواجهة مصيرية أمام “شعب الأرز”، ولا شيء يستدعي التشمير عن السواعد والدخول في وطيس المعركة مثل السؤال عن أيهما أطيب: مجدرة البرغل أم مجدرة الأرز؟ وفي أحيان كثيرة يكون هذا النزاع داخلياً في البيت الواحد.

وما يبدو مسألة طهي بسيطة، يخفي تحته طبقات من التمايز المناطقي والاجتماعي مع انقسام التقاليد حول مكوّنها الأساسي. فالمجدّرة بالأرز أكثر شيوعاً في حلب ومناطق الشمال، بينما تسود مجدّرة البرغل في مطابخ دمشق وحمص والجنوب السوري. وتنتشر الأولى في المدن، في حين تحتفظ الثانية بمكانتها في الأرياف، في تعبير واضح عن التمايزات الطبقية والاقتصادية، وهو ما عبّر عنه المثل الشعبي: “العز للرز والبرغل شنق حاله”.

فقد كان الأرز المستورد أغلى من البرغل المحلي المصنوع من القمح، وهو المحصول الذي عرفته بلاد الشام منذ القدم وزُرع على نطاق واسع في أراضيها. أما الأرز، فظلت زراعته نادرة، ظهرت فقط في مناطق محدودة وعلى فترات متقطعة، بسبب حاجتها الكبيرة إلى المياه.

لكن ينبغي القول إن هذه الانقسامات لم يعد لها ذات المعنى اليوم، ولم تعد المجدّرة -لا بالأرز ولا بالبرغل- أكلة في المتناول، في ظل الغلاء والانهيار الاقتصادي الذي نعيشه، تحديداً في سوريا ولبنان وفلسطين.

في البدء كان القمح.. الدولة والضبط والإخضاع

تاريخ القمح هو بداية الزراعة والاستيطان وبداية الحضارة نفسها. تقول الحكاية المعتادة إن الزراعة بدأت منذ ما يقارب عشرة آلاف سنة قبل الميلاد في بلاد الشام، حيث ظهرت أولى المستوطنات الزراعية، ولاحقاً تأسست أولى المدن في جنوب بلاد الرافدين قبل ما يقارب 6000 عام، ومعها نشأت الدول الأولى.

ورغم انقطاعات مظلمة في مسيرة الحضارة، على الأرجح حصلت بسبب غزوات البرابرة من الأطراف، فإن المدن والدول الأولى حافظت على وجودها وهو ما أثمر لاحقاً عن الحضارات الكبرى الأولى التي نعرفها. سمحت الزراعة والاستيطان بنشوء المدن والدول الأولى، بفضل ما اتاحته الزراعة من إمكانية إعالة أعداد كبيرة من البشر، أكبر من جماعات الصيد والالتقاط السابقة، وضمان استقرارهم وأمنهم، وهو ما مكن من ظهور الحضارة عبر تطور الكتابة والتنظيم الاجتماعي. حكاية الزراعة هي حكاية الحضارة والتقدم.

يبدأ جيمس سكوت عمله “ضد الغلال”، الذي يبحث أصول الدول الأولى وصعودها وسقوطها، من ملاحظة أساسية، أن هذه القصة المرويّة عن نشوء الحضارات هي قصة المنتصرين. لم تصلنا حكايات البرابرة كونهم لم يكتبوا، ولم تصلنا أيضاً حكايات الفلاحين (الزرّاع)، وما وصلنا فقط هي المدونات التي كتبها وحفظها المنتصرون وكهنتهم وكتابهم في المكتبات، مثل مكتبة آشور بانيبال.

ويشير سكوت إلى أن قصة الحضارة هذه تعاني من مثالب عديدة صرنا نعرفها اليوم بشكل أفضل. فالزراعة لم تكن أمراً جديداً تماماً على البشر الذين عرفوا أنماطاً هجينة من الحياة تجمع بين الزراعة والاعتناء المؤقت بالنباتات والصيد لفترات طويلة من الزمن. لكن أحوال المزارعين كانت أسوأ من نظرائهم الصيادين أو الذين اعتمدوا أنماطاً هجينة، وكانوا عرضة لخطر المجاعة بشكل أكبر لاعتمادهم على محصول أساسي يعتمد بدوره على المياه والأمطار، وهي أمور لم يكن بمقدور المزارعين الأوائل التحكم بها وتنظيمها.

وكان على المزارعين حفظ المزروعات لفترات قادمة كمؤنة، الأمر الذي فرض عليهم عبئاً إضافياً تمثل بالحاجة إلى تأمين أماكن لحفظ المحصول وتأمين الحماية له من الاعتداءات والسرقة، وقد أصبحت صيداً ثميناً لتجمعها في مكان واحد. هذا كله أضاف تكلفةً على هذه المجتمعات وجعلها أكثر عرضةً للخطر والانهيار في حال فقدانها محصولاتها الثمينة.

في تلك العصور، كان غذاء الزرّاع أقل تنوعاً وغنىً بالعناصر الغذائية مقارنة بنظرائهم الصيادين، الذين تمتعوا بسلة غذائية أكثر تنوعاً بكثير. وظهرت كذلك ما يعرف بـ”أمراض الحضارة” التي عانى منها الزراع – ونحن نعاني منها اليوم أيضاً – وهي أمراض ناتجة عن الجلوس لفترات طويلة، وقلة الحركة، أو حتى ممارسة أنماط من الحركة غير الملائمة لأجسادنا التي تطورت عبر عشرات آلاف السنين لتلائم نمط حياة مجتمعات الصيادين الرحّل.

إلى جانب ذلك، انتشرت الأوبئة الناجمة عن التعايش الوثيق مع الحيوانات المُدجّنة، حيث تقاسم البشر معها المسكن والمحيط، وهي سمة جوهرية من سمات مجتمعات الزراعة المستقرة. ونحن اليوم نسمع باستمرار عن الأوبئة التي تنتقل إلينا عبر الحيوانات، لكن الوضع في تلك العصور كان أكثر تعقيداً وخطورة.

فالبشر حينها لم يكونوا قد عاشوا لآلاف السنين مع الحيوانات في بيئة واحدة كما هو الحال اليوم، وبالتالي لم يطوّروا مناعة كافية لمواجهة الجراثيم والفيروسات التي تنقلها هذه الحيوانات. لقد كانت المستوطنات والمدن الأولى بمثابة حقل تجارب مفتوح لمثل هذا التفاعل الواسع بين الإنسان والحيوان، ويمكن تخيّل ما قد ينجم عن مثل هذا الاحتكاك المفاجئ والمكثف مع أنواع عديدة من الكائنات، بالنسبة لأجساد لم تكن مهيّأة مناعياً.

يكفي أن نستحضر مثال سكان أمريكا الأصليين الذين قضت على أعداد كبيرة منهم أمراضٌ نقلها إليهم الأوروبيون القادمون من “العالم القديم”، وهي أمراض كانت تُعدّ شائعة وعادية لكنها كانت مميتة بالنسبة لسكان لم يسبق لهم التعرّض لها من قبل.

حتى على مستوى الكفاءة الذهنية كان وضع الصيادين أفضل من الزراع، إذ امتلكوا ذاكرة حادّة فرضتها الحاجة إلى التكيّف مع بيئة طبيعية واسعة ومتنوعة، فكان عليهم أن يميزوا بين النباتات الصالحة للأكل وتلك السامة أو العلاجية، وأن يحيطوا علماً بعادات الحيوانات البريّة الكثيرة التي تقاسمهم المحيط. في المقابل، كانت البيئة المحيطة بالزراع أكثر فقراً وتوحّداً.

تشرح هذه التحديات، بشكل ما، أسباب الانهيارات المتكرّرة التي شهدتها الدول الأولى وتعدّد البدايات. لكنها، في المقابل، تجعل من لحظة البداية نفسها لغزاً حقيقياً. فإذا كان نمط حياة الزراعة أكثر هشاشة ومعاناة من حياة الصيد والجمع، فلماذا تخلّى البشر عن أسلوب العيش الذي اعتادوه آلاف السنين؟ لماذا نشأت المدن والمستوطنات الأولى إذا كانت بؤراً للموت والمرض، أكثر منها دلالة على الارتقاء في مستوى الحياة؟

يحاول جيمس سكوت، في عمله، أن يجيب عن هذه الأسئلة إلى جانب أسئلة أخرى مرتبطة بها، مثل: لماذا نعيش اليوم على مجموعة محدودة من المحاصيل الأساسية، جميعها تقريباً دُجّنت في ذلك الزمن، مثل القمح والأرز والعدس والحمص والشعير؟ لماذا نعود دوماً إلى البربرية وقتها؟

القمح.. الخطيئة الأصلية

الأطروحة المركزية لسكوت تحاجج في أن الدول الأولى نشأت لخلق قوة العمل التي تحتاجها الزراعة والسيطرة عليها. فالمحاصيل الأساسية مثل القمح والأرز تحتاج إلى عمل كثيف في سياق الظروف السيئة المشار إليها، لكنها في الوقت ذاته هي محاصيل مثالية لنظام الضرائب الناشئ، فهي خفيفة الوزن مقارنة بالحريرات التي تزودها، ويمكن نقلها وتخزينها لفترات طويلة. كذلك، تنمو هذه المزروعات وتصبح جاهزة للحصاد في فترات زمنية محددة، وتكون مرئية بوضوح، على عكس الدرنيات التي تبقى مدفونة في الأرض ويمكن تركها دون حصاد لفترات طويلة، مما جعلها غير ملائمة لنظام تحصيل الضرائب.

بناءً على هذين الاعتبارين، الحاجة إلى عمل كثيف في ظروف صعبة، وكون هذه المحاصيل صالحة لجمع الضرائب (أي الفائض بالقسر) يمكن إلقاء الضوء على نشأة الدولة بوصفها كياناً مسؤولاً عن توفير قوة عمل كافية، دائمة، ومطيعة تخدم متطلبات الزراعة. وقد تحقق ذلك من خلال مجموعة من الاستراتيجيات أبرزها شنّ الحروب على الأطراف، والتي مكّنت من أسر أفراد وتحويلهم إلى عبيد أو أقنان يعملون في الأراضي الزراعية. كما اضطلعت الدولة، عبر جهازها الإداري المكوّن من الموظفين والجنود (وباستخدام القانون) بتأمين هذه القوى العاملة، والحفاظ على انضباطها، وضمان تحصيل الفائض من إنتاجها من خلال الضرائب.

لم يكن انهيار الدول الأولى، ولا ما يُعرف بـ “عصور الظلام” التي أعقبته والتي يسميها جيمس سكوت “العصر الذهبي للبرابرة”، ناجماً فقط عن هشاشة تلك الكيانات الناشئة، بل لأنه مثّل مصلحة لغالبية السكان الذين تحرروا من الدولة وعادوا إلى أنماط حياة أكثر ملاءمة، وهذا ما يسمح لنا بفهم عدد من العمليات المميزة التي رافقت عصور البرابرة هذه. الكتابة مثلاً التي طالما اعتُبرت منجزاً حضارياً، لم تنشأ في الأصل بهدف تدوين المعارف أو إنتاج الأدب، بل ظهرت كأداة عملية في خدمة الدولة، لتسجيل الضرائب وتقسيم الأراضي وتوثيق الديون وفرض القانون، بما يشمل تقييد الفلاحين بالأرض.

لهذا، فإن أقدم الكتابات التي اكتُشفت تدور جميعها حول هذه الوظائف. وبهذا كانت الكتابة أداة مهمة للدولة من أجل إخضاع الناس وضبطهم. أما بالنسبة لمن هم تحت، للخاضعين، فكانت أداةً لقمعهم والسيطرة عليهم. ومن هنا، فإن اختفاء الكتابة خلال فترات انهيار الدول لم يكن بالضرورة تراجعاً حضارياً، بقدر ما كان تخلياً واعياً عن أداة أساسية للسيطرة البيروقراطية، أي أن التخلي عن الكتابة كان ربما فعل مقاومة أكثر من كونه انحداراً.

لقد كانت الدول الأولى هي الأساس في تشكيل المجتمعات الطبقية، بقدر ما كانت هي نفسها ثمرة لزراعة الحنطة. ويمكن، انطلاقاً من هذا، النظر إلى الحضارة بوصفها تنطوي منذ بدايتها على خطيئة أصلية. فالحضارة، ومعها الدولة، نشأت في بداياتها على أسس من القمع والإخضاع. وقد ظل هذا النسغ حاضراً في بنية الدولة، تعبيراً عن تلك الحقيقة التأسيسية. وما بدا لاحقاً وكأنه تهذيب لجهاز الدولة في سياق تطور الحضارة، لم يكن سوى استمرارٍ لصلة دائمة بالنشأة الأصلية.

قمح حوران وصعود القومية العربية

تاريخ القمح في حوران قديم جداً، وقد عُرفت المنطقة بزراعته واشتهرت به منذ أيام الرومان. غير أن الأحوال تبدلت، وفي العهد العثماني تحولت منطقة جبل حوران إلى منطقة حدودية على تماس مع البدو وغزواتهم. لكن ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تحول مجرى الأمور مرة أخرى مع اندماج الدولة العثمانية المتزايد بالسوق العالمية، وانطلاق عجلة الإصلاحات الإدارية فيها المعروفة بـ “عهد التنظيمات” في إطار مساعي بناء دولة مركزية حديثة.

في القلب من هذا كان تاريخ القمح الحديث في منطقة جبل حوران (لاحقاً سُمي جبل الدروز وبعدها جبل العرب) منغرساً في مسعى بناء الدولة المركزية وإخضاع الجبل للحكم المباشر في دمشق، وإدماج الزعماء المحليين والأهالي في هوية واسعة تتجاوز محيط الجبل، بدءاً من الهوية العثمانية وصولاً إلى القومية العربية.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

من الحكم الذاتي إلى المركزية

بدأ الحضور الدرزي في جبل حوران منذ فترة بعيدة وعلى موجات متتالية، حيث من المفترض أن البداية كانت عام 1685 عندما حضر الأمير علم الدين المعني إلى الجبل برفقة معاونه حمدان الحمدان قادماً من جبل لبنان، ولاحقاً غادر الأمير جبل حوران عائداً إلى لبنان تاركاً ورائه نائبه. وبعد فترة وجيزة التحق خليل الحمدان، ابن عم حمدان الحمدان، به في حوران قادماً على رأس حملة من صفد وهو ما كان ايذاناً ببدء مشيخة الحمدانيين في حبل حوران. الهجرة الثانية حصلت على إثر معركة “عين دارة” 1711 بين القيسيين واليمنيين الدروز في لبنان، وعلى إثرها هُجر اليمانيون من هناك وأتوا إلى حوران. وقد كان لحملات أحمد باشا الجزار في لبنان دوراً في دفع عدد آخر من الدروز للنزوح إلى جبل حوران، كما حصلت هجرة أخرى عام 1811 من الجبل الأعلى في حلب على إثر الاضطهاد الذي لحق بالدروز هناك على يد حاكم جسر الشغور طوبال علي.

عبر هذه الهجرات المتتالية تشكل للدروز قاعدة محلية قوية في جبل حوران، وتمتعوا بنوع من الاستقلال الذاتي تحت قيادة مشايخهم، وشكلوا سداً في مواجهة البدو. وقد اعترف العثمانيون بهذا الوضع من الاستقلال الذاتي للجبل تحت إمرة الزعماء المحليين للدروز ولم تتجاوز سلطتهم تحصيل الضرائب عبر الملتزمين.

غير أن التحدي الأول لهذا الاستقلال الذي تمتع به الدروز في جبل حوران أتى من طرف ابراهيم باشا الذي أخضع سوريا لحكم والده محمد علي باشا. وقد سعى بدوره إلى فرض حكم مباشر على جبل حوران بما يتضمن التجنيد وفرض السخرة وتجريد الفلاحين من السلاح، وهم ما رفضه الدروز وتمردوا عليه. وقد نجح الدروز في هزيمة ثلاث جيوش مصرية أرسلها ابراهيم باشا لقمع تمردهم، مما دفعه إلى قيادة جيش كبير من 15000 رجل بنفسه عام 1838، فحاصر الدروز المتمردين في منطقة اللجاة وقام بتسميم ينابيع المياه لدفعهم للاستسلام. لكن المعلومات التي وصلته عن أن العثمانيين يعدون لهجوم على سوريا، دفعه إلى الوصول إلى تسوية مع الدروز وافق فيها على شروط الدروز من أجل أن يسحب جيشه باتجاه الشمال.

بعد إخراج إبراهيم باشا من سوريا وعودة الأخيرة إلى حكم العثمانيين فإن هؤلاء سعوا بدورهم إلى تعزيز حكمهم المباشر على الولايات الخاضعة لهم، وتطوير الإدارة العثمانية وتحصيل الضرائب مباشرة، وهي الفترة التي عُرفت باسم عهد التنظيمات التي انطلقت مع خط شريف كلخانة 1839 وتبعه خط همايون 1856 وقانون الأراضي 1858، وهو ما دفعهم عام 1852 إلى محاولة فرض حكم مباشر على الدروز بمطالب شبيهة بما سبق لابراهيم باشا السعي إليه، حيث حاولوا فرض التجنيد الإجباري على الدروز، الذين رفضوا هذا الأمر وتمردوا من جديد على هذه المحاولة. وقد انتهى هذا الصدام بانتصار الدروز، وهو ما رسخ اسطورتهم الحربية، وجعل من الجبل حصناً منيعاً في مواجهة محاولات الحكم المركزي للدولة العثمانية، ومعها أيضاً تحول جبل حوران ليصير جبل الدروز.

وقد أتت أحداث حرب لبنان 1860 لتعزز من سمعة الدروز الحربية، حيث انطلق إسماعيل الأطرش على رأس حملة من حوران إلى جبل لبنان لمساعدة الدروز هناك في حربهم ضد المسيحيين، حيث حقق الأطرش انتصارات كبيرة. ورغم ما لحق المسيحيين في جبل لبنان من قتل وتشريد على يد الدروز، إلا شيئاً من هذا لم يحصل لمسيحيي حوران حينما عاد إسماعيل الأطرش إلى حوران. وحتى المذبحة التي لحقت بمسيحيي دمشق لم يشارك بها دروز حوران، واقتصرت مشاركة الدروز فيها على الدروز المقيمين بالقرب من دمشق كما يظهر.

لكن المسعى العثماني من أجل مركزة الحكم وتحديث الجهاز الإداري لم يتوقف، ففي عام 1865 تم تعميم تطبيق قانون الولايات على بلاد الشام، فتشكلت ولاية سوريا من مقاطعتين، دمشق وصيدا. وكانت متصرفية حوران في الجنوب تتبع لولاية دمشق. وقد قُسمت المتصرفية إلى أقضية لكل منها قائممقام، والقضاء قُسم بدروه إلى نواح لكل منها مدير ناحية. ومع وصول رشيد باشا والياً على الشام، فإنه قد اعتمد سياسة، أصبحت مثالاً يحتذى تجاه جبل الدروز، تقوم على الاعتراف بما يشبه الاستقلال للجبل مع إشراك الزعماء المحليين في الخدمة العثمانية بوصفهم موظفين، وبالتالي عثمنتهم من خلال الجهاز الإداري للدولة نفسها. فصار إسماعيل الأطرش موظفاً عثمانياً برتبة مدير جبل الدروز.

وبعد نزاعات بين آل الأطرش وبدو الصلوت على الأراضي، تم عزل إسماعيل الأطرش وتحويل جبل الدروز إلى قضاء تابع لمتصرفية حوران التي يقوم عليها قائممقام عثماني، وقضاء جبل الدروز هذا ينقسم بدوره إلى أربع نواح لكل منها مدير من المشيخات الدرزية الأربع، السويداء وشهبا والمجدل وعرى.

كيف ننقل القمح؟

لم تدم هذه السياسة طويلاً، فمع وصول الوالي الإصلاحي مدحت باشا رغب في الغاء هذه الاستقلالية التي تمتع بها الجبل كونها تعيق المشروع التحديثي عموما للدولة. ووجه قواته 1879 إلى الجبل وبعد مواجهات عسكرية مع الدروز، وتدخلات عديدة من طرف دروز جبل لبنان والبريطانيين، تم الوصول إلى تسوية تجعل من نظام جبل الدروز شبيهاً بنظام جبل لبنان، حيث صار قضاء تابعاً وبشكل مباشر لوالي دمشق، كما تم تشكيل ضابطية للدرك من الدروز أنفسهم، وتم إعفاؤهم من الجندية.

كان جزء من مهام الزعماء الدروز الذين ادمجوا في النظام الإداري العثماني واعترف بهم موظفين هو الحفاظ على الأمن والاستقرار وأيضاً على سلامة توريد الحبوب، وهي المسالة التي ظهرت أهميتها بشكل متصاعد وخاصة منذ حرب القرم التي أظهرت الحاجة الشديدة لتأمين الغلال للجيش وإمكانية وصول هذه الغلال إليه. كما ظهرت قيمة الحبوب وأهميتها في التجارة الخارجية، وخاصة بعد المعاهدة الإنجليزية-العثمانية 1838 والتي أنهت الاحتكار في جميع أنحاء السلطنة، حيث أتاحت حرية الوصول إلى الإنتاج الزراعي من قبل الأوروبيين.

لقد كانت حوران منطقة إنتاج رئيسة للقمح، ووصل متوسط المحصول فيها إلى ربع مليون طن بحسب تقديرات المسيو دونتيل 1896، وكانت أسواق هذا القمح تتوزع على المدن الداخلية مثل دمشق والقدس ومدن الموانئ مثل بيروت وعكا والتصدير إلى أوروبا وحتى مصر، واخيراً بالطبع الدولة العثمانية نفسها ممثلة بالجيش وقافلة الحج.

غير أن المعضلة الكبرى التي واجهت إنتاج القمح في حوران تمثلت بوسائط النقل التي زادت من كلفة القمح بشكل كبير، فحتى منتصف القرن التاسع عشر كان النقل يعتمد أساساً على حيوانات الجر (الجمال والبغال والحمير) مما جعل تكاليف النقل عالية، فوصلت كلفة كيلة الغلال في حوران عام 1880 إلى 4 قروش، وكلفة نقلها إلى دمشق تساوي أيضاً 4 قروش إضافية، فيما يصير سعرها في جبل لبنان إلى 14 قرش.

وفي عام 1899 كانت كلفة النقل بالإبل من غرب حوران إلى عكا تتراوح بين  25-30 فرنك للطن، ومن وسط حوران 35-40 فرنك. وقد جعل تأخر النقل وبدائيته من النقل داخل سوريا أكثر كلفة من النقل البحري إلى أوروبا، فمثلاً كانت تكلفة نقل البضائع من اللاذقية إلى حماة، عام 1879، تصل إلى 100 فرنك للطن الواحد، بينما يكلف نقلها بالسفن الشراعية إلى ميناء جنوة في شمال إيطاليا ما يصل إلى 25 فرنك.

لكن بعد حرب القرم ومع ازدياد الطلب العالمي على القمح، وازدياد اندماج الدولة العثمانية ومعها ولاياتها بالسوق العالمي، تم تنشيط إنتاج القمح رغم تكاليف النقل فكانت تكلفة زراعة قنطار القمح قرب حلب، عام 1857، تصل إلى 9 شلن وكانت تكلفة نقله إلى الساحل هي حوالي 13.6 شلن، فيما وصل سعر القنطار في انكلترا إلى 56 شلن وهو ما أبقى التصدير خياراً مفضلاً.

تعزز إنتاج القمح عبر إنشاء الطرق والخطوط الحديدية، ما أدى إلى انخفاض تكاليف النقل وتعزيز التوجه إلى التصدير، وقد دعم تأسيس ميناء بيروت 1868 التوجه نحو التصدير. فكان العقدين الرابع والخامس من القرن التاسع عشر ذروة تصدير الحبوب السورية بفضل ارتفاع الأسعار عالمياً. فبدأ العمل على طريق دمشق-بيروت عام 1859 ووصلت أول رسالة عبر هذا الطريق عام 1863، كما سيرت الشركة المسؤولة عن الطريق عربة من بيروت وأخرى من دمشق في اليوم بسعة 12 مقعد، وبلغت مدة الرحلة 13 ساعة من أجل قطع مسافة 112 كيلومتر.

في تلك السنوات، وتحديداً سنة 1857 حصل الكونت دي برتوي على امتياز شركة لبناء هذا الطريق. وبدأ العمل أيضاً على خط بريطاني يربط عكا بدمشق في العام 1892، ما لبث أنه صُرف النظر عنه في العام 1898 بعد بناء 8 كيلومتر منه. وفي العام 1892 تأسست الشركة الفرنسيةشركة السكك الحديدية الاقتصادية لخط بيروتدمشقحورانوحصلت في العام التالي على امتياز إقامة خط بيروتدمشقبيراجل. وافتتح خط بيروتدمشق عام 1895 بطول 147 كيلومتر، حيث استغرقت الرحلة 9 ساعات، فيما استمر استخدام الجمال في نقل الغلال من حوران.

طريق حوران – دمشق وسؤال القومية العربية

عزز تقدم الطرق والسكك الحديدية وتوسعها في الولايات العربية، بما فيها تجاه منطقة جبل حوران، الربط بين المدن والمناطق وتعزيز التواصل بين سكانها. ولكن هذا بدوره حصل مترافقاً مع تقدم الثكنات العثمانية إلى مداخل جبل الدروز. هذا التكافل بين الطرق والثكنات العسكرية لن يقتصر على العثمانيين، بل سوف يشهده الجبل ثانية في عهد الرئيس السوري أديب الشيشكلي.

غير أن هذا الحال تحول لاحقاً، وتراجع خلال العقدين السابع والثامن من القرن التاسع عشر فتضاءل هامش الربح أو حتى انهار عندما انخفضت الأسعار إلى ما دون سعر التكلفة، ففي العام 1901 كان سعر القنطار في انكلترا 27 شلن، لكن من أجل تحقيق قدر وافر من الربح للفلاح، كان يجب أن يُباع القنطار بسعر بين 28 و 30 شلن.

لعب تجار دمشق، ولا سيما تجار حي الميدان الواقع جنوب المدينة خارج أسوارها وعلى الطريق المؤدي إلى حوران، دوراً محورياً في بناء علاقات وثيقة مع مشايخ الدروز، إذ كانوا يموّلون زراعة القمح عبر تقديم القروض لهم، إلى جانب تلبية احتياجاتهم الخاصة. هذه الشبكات التجارية والاجتماعية الناشئة كان لها أثر بالغ في الأحداث التاريخية اللاحقة، وساهمت بدور حاسم في تشكّل الوعي القومي العربي.

ومن بين أبرز العائلات الدمشقية التي نشأت في الميدان وارتبطت بتلك الشبكات عائلات المهايني وسكر وبيطار من السنة، وقد انحدر من الأخيرة صلاح الدين البيطار، أحد مؤسسي حزب البعث. كما برزت عائلة عفلق، التي ينتمي إليها ميشيل عفلق، المؤسس الآخر لحزب البعث، وكان والده يوسف عفلق تاجراً للحبوب على صلة مباشرة بآل الأطرش، وهي صلة سوف يحافظ عليها الجيل التالي من أبناء العائلتين، وسوف يكون منصور الأطرش، ابن سلطان الأطرش، واحداً من مريدي ميشيل عفلق الأوائل ومن الرعيل الأول لحزب البعث.

كما برزت أيضاً عائلة الشويري المسيحية من حي الميدان، التي ارتبطت بتجارة الحبوب وكانت على صلة وثيقة بآل الأطرش. ومن هذه العائلة انحدر نبيل شويري، أحد قادة حزب البعث، والذي تعززت علاقات أسرته بآل الأطرش إلى حد أن شقيقته تزوجت من منصور الأطرش. لم يكن تأثير هذه العلاقات بين تجار الميدان ومشايخ جبل الدروز مقتصراً على تأسيس حزب البعث، بل كانت لها ساحات امتحان سابقة ومؤسسة من الثورة العربية إلى الثورة السورية الكبرى. فقد جاء العديد من قادة الثورة السورية الكبرى من منطقتي حوران والميدان، وكان الرابط المشترك بينهم هو علاقات قوية نشأت من خلال تجارة القمح، التي عمّقت الصلات بين المدينيين والريفيين، وأرست شبكة مصالح وتحالفات سيكون لها أثر بالغ في المسار السياسي اللاحق.

فمثلاً كانت عائلة البكري السنية من التجار الدمشقيين الذين تمتعوا بعلاقات تجارية مديدة مع حوران، وكان لديهم محل في الشاغور وآخر في القابون في غوطة دمشق بالقرب من جرمانا وهي قرية درزية في غوطة دمشق. وقد لعبت عائلة البكري دور صلة الوصل بين الأمير فيصل والدروز والتحاق هؤلاء بالثورة العربية، ومن هذه العائلة كان هناك الأخوان نسيب وفوزي الذين درسا في مكتب عنبر، وهو المكتب الذي بدوره لعب دوراً في تشكيل النخبة السورية ووعيها في إطار عصر الإصلاحات.

فقد كان تأسيس المدارس لإعداد المهنيين والبيروقراطيين للدولة العثمانية هو الوجه الآخر من سياسات المركزة والعثمنة. وكان درة هذه السياسات الثقافية تأسيس مدرسة العشائر السلطانية في اسطنبول عام 1892 بتوجيه من السلطان عبد الحميد من أجل أبناء شيوخ العشائر. وقد ذهب إليها العديد من أبناء مشايخ الدروز، وفي هذه المدرسة تصادق رمضان الشلاح من دير الزور مع علي الأطرش، وهي صداقة لعبت دوراً خلال الثورة السورية الكبرى.

ويقدم محمد عز الدين الحلبي نموذجاً آخر لخريجي المدارس العثمانية هذه، وقد ولد في شهبا في جبل الدروز عام 1889، ودرس الثانوية في أنقرة وتخرج من المدرسة الحربية في اسطنبول 1905، وخدم بعدها في دمشق. وصار آمراً للخيالة الاحتياط في دوما 1909، لكنه استقال بعد ثلاث سنوات احتجاجاً على الحملة على جبل حوران التي قادها سامي باشا ليصبح بعدها قائممقام الزبداني.

وما أن انطلقت الثورة العربية الكبرى حتى التحق بقوات الأمير فيصل، وحارب في ميسلون. وعند دخول الفرنسيين إلى جبل الدروز صار عضواً في المجلس التمثيلي للسويداء، وبين عامي 1925 – 1927 قاد عدد من العصيانات في الريف خلال الثورة السورية الكبرى ولعب دوراً في التواصل مع قيادات الثورة في دمشق ممن زاملهم خلال دراسته وعمله، وبعد هزيمة الثورة نفي حتى 1937 بوصفه عضواً في عصابة الشريفيين.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

ثورة “العامية” في جبل العرب

خلال القرن التاسع عشر، انتهج العثمانيون سياسات متناقضة تجاه مسألة ملكية الأراضي. فمن جهة، ومع صدور قانون الأراضي وإنشاء سجل الطابو، سعوا إلى تثبيت الملكيات الفردية للفلاحين على أراضيهم بهدف تحفيز الإنتاج الزراعي. إلا أن العديد من الملتزمين وأصحاب النفوذ استغلوا هذا التوجه لصالحهم، إذ دفعوا الفلاحين المتوجسين من إجراءات التسجيل إلى الامتناع عنه، ما أتاح لهؤلاء تسجيل الأراضي بأسمائهم، وهو ما أدى إلى نشوء ملكيات إقطاعية واسعة. ومن جهة أخرى، وعلى النقيض من هذا المسعى نحو التمليك الفردي، عملت الدولة العثمانية على تعزيز نظام “الميري”، أي الملكية السلطانية للأرض، بما يضمن لها الحق في استعادتها متى شاءت.

كذلك ساهمت الهجرات المتعددة إلى الجبل من فلسطين ولبنان خلال تلك الفترة في زيادة الطلب على الأراضي، لا سيما مع تمدد الدروز واستيلائهم على مساحات إضافية من أراضي البدو، كما ظهر في الصدامات المتكررة بين آل الأطرش وبدو الصلوت، في سياق تصاعد الطلب على القمح.

في هذا السياق، تعاظم نفوذ المشيخات، لا سيما آل الأطرش، الذين تحولوا إلى قوة إقطاعية داخل المجتمع المحلي، مستفيدين من اتساع ملكياتهم الزراعية ومن إدماجهم في الهيكل الإداري للدولة عبر ما سُمّي بعثمنة الوجهاء، فالسلطة التي باتت بأيديهم لم تعد رمزية، بل مدعومة بقوات مسلّحة خاصة ومواقع تنفيذية ومصادر دخل منتظمة عززت من حضورهم داخل نظام الدولة. ومع تدهور أسعار القمع عالمياً خلال العقدين السابع والثامن من القرن التاسع عشر وتفاقم الضغوط الاقتصادية على الفلاحين انطلقت ثورة الفلاحين المعروفة بـ “العامية” ضد مشايخ آل الأطرش بشكل خاص.

لم تنتصر العامية، لكنها نجحت في تحجيم وضبط آل الأطرش من ناحية، كما أضعفت الملكيات الكبيرة للأراضي وعززت توزيع أكثر مساواة للأراضي على القرى والفلاحين، كما أنها سمحت للدولة العثمانية بلعب دور أكبر داخل الجبل، دون أن تؤدي إلى القضاء على استقلالية الجبل التامة ومكانة مشيخة آل الأطرش.

أحد أسباب عدم قدرة، أو امتناع، الدولة العثمانية من التدخل الفعال في إخماد العامية والقضاء على الاستقلال الذاتي للجبل يكمن في معضلة واجهت الدولة العثمانية، وسوف تواجه دولة الاستقلال السورية مرة أخرى مع انتفاضة أخرى في الجبل هي الانتفاضةالشعبية، من ناحية رغبتها في تحطيم الاستقلال الذاتي للزعماء المحليين، ولكن من جهة أخرى خشيتها من تغيير يأتي من تحت ويهدد التركيب الهرمي للسلطة نفسها بنزعاته المساواتية والمتمردة.

سنابل وبنادق

طوال تلك العقود لعب القمح، بما ارتبط به من طرق نقل وشبكات تجارة ومعرفة، دوراً محورياً في إدماج منطقة جبل حوران ضمن السياسات اليومية والمحلية لدمشق، وكرّس موقعها كمنطقة تتجاذبها محاولات المركز، سواء في عهد الدولة العثمانية أو لاحقاً في الدولة السورية، لأجل فرض سلطته المركزية، في مقابل تمسك الدروز هناك بخصوصيتهم وسعيهم للحفاظ على قدر من الاستقلال الذاتي.

لكنّ هذه الشبكات الاقتصادية لم تقتصر على العلاقة العمودية بين الجبل والدولة، بل أسست أيضاً روابط أفقية وثيقة بين الدروز وعائلات دمشقية، سنية ومسيحية، اتسعت عبر علاقات المصاهرة والتجارة والصداقة. وقد أسهمت هذه العلاقات، إلى جانب سياسات التعليم الموحّد التي أطلقتها الدولة العثمانية، في بلورة تصورات جديدة ومشتركة عن الهوية والانتماء والطموح السياسي.

إن قصة تحوّل الدروز من محاربين متمردين وأعداء للسلطة إلى رموز في الذاكرة القومية العربية وأبطال للثورات والنضال، لا يمكن فصلها عن حكاية القمح في حوران. ففي هذا المسار الطويل، لعبت سنابل القمح دوراً بقدر ما لعبت البنادق.

كل هذا تاريخ لا يُكتب من فصل واحد، فمثلما نضجت المجدّرة ببطء على نار التحولات السياسية والاقتصادية الكبرى، ستتابع هذه السلسلة كشف طبقاتها تباعاً. في الجزء الثاني، نواصل تتبّع سيرة القمح في بلاد الشام، وعلاقاته المتشابكة بالسلطة، والمجتمع، والثورات.

مراجع للاستزادة:

  • Against the Grain: A Deep History of the Earliest States, James C. Scott, Yale University, 2017.
  • The Great Syrian Revolt and the Rise of Arab Nationalism, Michael Provence, University of Texas Press, 2005.
  • انتفاضات جبل الدروز-حوران: من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال، بريجيت شيبلر، دار النهار للنشر، 2004.
  • التاريخ الاقتصادي للهلال الخصيب 1800 – 1914، شارل عيساوي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1990.
  •  قصة طبق المجردة
  • المجدرة بين المطبخ والأسطورة، مؤنس البخاري 
  • معجم المآكل الدمشقية، محمد بن الحسن بن محمد الكاتب البغدادي. مؤسسة هنداوي، 2017.