fbpx

إلى أبعد مكان

في جبل الأربعين رجال غير مرئيين يحرسون دمشق من كل شر، يعتنون بي وبكل الدراويش والمظلومين والعشاق
15 مارس 2022

لطالما جالت في ذهني أفكار عن جمالية الأشياء البعيدة،كيف يصير الشيء أجمل كلما ابتعد عن متناول النظر. بدأت الفكرة عندما اكتشفت جمال دمشق وأنا في بيروت. كانت دمشق طوال الوقت ناقصة ورمادية، لكن ما أن خرجت منها حتى رمّمها خيالي وصارت ملوّنة في ذهني، وعندما رجعت إليها حصل العكس، بدأت أحبّ بيروت وعادت دمشق قبيحة ورمادية.إلى أبعد مكانإلى أبعد مكان

تضيق بي المدينة اليوم، المسافة بيننا معدومة تماماً، لهذا بحثت عن أبعد نقطة يمكن أن أراها منها دون أن أواجه مساءلة أمنية أو يعترضني رجل أمن أو حاجز عسكري.  فكرت في أن أصعد إلى مقام الأربعين على قمة جبل قاسيون، ليس بسبب علاقة روحية خاصة تربطني بالمقام، لكن لأنه أعلى نقطة تطلّ على العاصمة يمكن من خلالها رؤية منزلي ومنازل ثلاثة ملايين شخص آخر يقيمون في الأسفل.

لمقام الأربعين كذا قصة أو أسطورة يرددها أهالي دمشق. واحدة منها تقول إن أربعين ولياً صالحاً اختبأوا في مغارة أعلى الجبل هرباً من ملكٍ ظالم. تقفى أثرهم حرس الملك إلى أن عرفوا مكانهم، وعندما داهموهم في إحدى الليالي انشق بطن الجبل وابتلع الحرس الأشرار، أما الأولياء فخرجوا من الطرف الآخر تاركين ورائهم رائحة المسك التي بقيت معشّشة في الحجارة.

إلى أبعد مكان

قصة أخرى سمعتها من والدي الذي قضى طفولته في حي الشيخ محي الدين المحاذي للجبل، سمعها بدوره من جدي. تقول الأسطورة إن الجبل شهد على وقوع أول جريمة ارتكبها النوع البشري عندما قتل قابيل أخاه هابيل. سالت دماء هابيل على الصخور فاهتز عندها الجبل وشهق من هول الجريمة، تشكلت مغارة على شكل فم مفتوح يسميها الأهالي اليوم “مغارة الدم”، يعتقدون أن خيطاً أحمر من دم هابيل يجري في عروق صخورها.

كنت أسمع هذه القصص وأتأمل الجبل من بعيد، تحضر صورة المغارة في ذهني بأسنانها وأضراسها الصخريّة فلا أستطيع منع نفسي من السؤال: ترى هل المدينة تتسلق الجبل وتصعد إلى القمة، أم ربما فم المغارة المفتوح يلفظ المنازل ويدحرجها نحو الأسفل؟إلى أبعد مكان

ساحة شمدين

كي تتمكن من الوصول إلى بداية طريق الأربعين، أي الدرجات الأولى، لا بد من اجتياز مراحل محددة. عليك أولاً أن تخترق المدينة المتسلقة ولا يمكن اختراقها إلا عن طريق قباطنة الجبل، سائقي سيارات “هوندا” أو “سوزوكي” المغلقة، وهي وسيلة نقل أشبه بكبسولة زمنية تصطف في ساحة تنتظر الساكنين العائدين إلى منازلهم على سفح الجبل. السائقون وحدهم من يمكنهم التوغل في الحواري الضيقة شديدة الانحدار والتصدي للانعطافات المفاجئة والمنزلقة.

في رحلة تستمر نحو عشر دقائق، تمر كبسولة الزمن بين سلسلة من البيوت المتراصة والعشوائية، أبواب تبدو بلا بيوت، أبواب في فضاءات غير متوقعة، شوارع إسفلتية عامودية تقريباً، أشبه بالجدران منها إلى الطرقات، يسير عليها أطفال ونساء وشيوخ ورجال بسلاسة غريبة من نوعها، كما لو أن الإنسان هنا تعلم السير على الجدران قبل أن يتعلمه على الطرقات المنبسطة.

أفكر في الطريق، كيف كان يبدو الجبل قبل أن تستعمره البيوت؟ كيف توالدت تلك البيوت فوق بعضها البعض؟ بيوتٌ تبدو مؤقتة، كأنها نذير بأن المؤقت لعنة أصابت البلد وسيبقى هذا المؤقت أبدياً.

إلى أبعد مكان

إلى أبعد مكان

إلى أبعد مكان

صعود

تصل بي كبسولة الزمن إلى درج لا يتجاوز عرضه نصف متر. يخبرني السائق: هنا بداية الطريق. أتأهب لصعود ما يقارب 700 درجة وصولاً إلى المقام، أبدؤها من بين آخر بيوت الجبل، إلى أن تنتهي البيوت. أدرك حينها أن المدينة توقفت عن الصعود في مرحلة ما على الأقل في هذه النقطة.

تبتعد البيوت شيئاً فشيئاً وتبدأ بفقدان هويتها الفردية لتصبح كلها في صورة واحدة كتلة متراصة من بنى عديدة تشكل البنية الكلية للمدينة. تفقد البيوت فرادتها كلما صعدت إلى الأعلى بينما تكتسب المدينة بالمقابل فرادتها من خلال كل تلك البيوت التي مررت بها في طريقك. تنتهي الدرجات السبعمائة وتصل إلى باب المقام، تلتفت إلى المدينة لتراها كتلة جميلة ومشوهة بآن معاً. ذاك التشوه هو بالضبط ما يكسبها ذاك الجمال.

عرفت من السائق رواية أخرى عن الجبل الذي يتبع إدارياً حي ركن الدين. يقول إنه كان ملاذاً للمتصوفين وللأبطال الشعبيين وللعشاق على مر التاريخ. يبدو لي أن قدر مقام الأربعين أن يكون ملجأً للهاربين من ظلم ما، هرب إليه المتصوفون وبدأت رحلتهم إلى الله من درجات الأربعين، بعدها هرب إليه أبطال المدينة الملاحقين من قبل رجال الأمن واختبأوا فيه.

أفهم من كلام السائق أن الجبل/ المقام هُزم لفترة من الزمن ما بين 2011 وحتى عام 2018، لم يبق فيه أبطال ولا أولياء، طوقته الحواجز والقطعات العسكرية، صار يمكن من فوق رؤية أعمدة الدخان تتصاعد من المباني في غوطة دمشق. لكن في النهاية، وبعد أن هدأت المعارك سجّل الجبل انتصاراً متواضعاً بأن أصبح ملاذاً للعشاق الهاربين، طلاب جامعات وشبان وشابات في أول عمرهم يسرقون لحظة حب أو قبلة خلف الصخور.

إلى أبعد مكان

أقف في جبل الأربعين وأتساءل، هل هذه المدينة لي؟ هل أستطيع الاحتفاظ بمسافة كافية عنها؟ أفكر بالأربعين ولياً صالحاً، أربعين حارساً للمدينة يحرسونها من كل شر، أهل الشام يسمونهم الأبدال، كلما مات منهم واحد أبدل الله رجلاً مكانه. أشعر أنهم هنا بقربي، غير مرئيين، يعتنون بي كما كانوا يفعلون مع الدراويش والمظلومين والعشاق، ومع كلّ من يرغب أن يقول لا، لكنها لا حذرة ومترددة ومتخفية.

إلى أبعد مكان

على الرغم من التواجد الأمني في محيط الأربعين إلا أنه حافظ على خاصيته تلك، خاصية الهروب والاختلاء بالنفس. مكان يحتوي سكينةً مجهولة المصدر ربما بسبب ارتباطه بحكايات ساحرة وعديدة تنسج حوله وترتبط فيه. ربما يقدّم مقام الأربعين عنواناً صارخاً عن المدينة بأنها دائماً ما ستحتوي على أنبياء وأولياء وقتلة، للصالحين أطراف الجبل وللقتلة باقي المدينة.

إلى أبعد مكان

العودة 

الآن يمكنك أن تعود للأسفل.. إلى المدينة.. هل تودّ العودة؟

إلى أبعد مكان