fbpx

فصول من حياة متسول أنيق

تغير التسوّل في سوريا.. من الكلام واللباس، إلى شعور الضحية المتنامي والذي تحول إلى جلد أيضاً.. للجميع في آن واحد.
12 مارس 2021

أمام الشارع القريب من محطة بورغن في مدينة بوردو الفرنسية والذي نطلق عليه نحن اللاجئين الجدد شارع الأتراك والمغاربة ثلاث نساء. امرأة مسنة وفتاتان إحداهما تحمل صغيراً لفّته بغطاء صوفي. لا يبدو الزي سورياً، كذلك الملامح. يحملن لافتات كرتونية كتب عليها بالفرنسية “عائلة سورية”.

تحمل المسنة في يدها كأساً كرتونية وتتمتم بكلمات غير مفهومة فيما تبدو لغة الفتاتين أقرب إلى الدارجة السورية المكسّرة. تكتفيان بالصمت المطلق إلا للرد على سؤال عابر أو في غفلة من الجميع لهدهدة الطفل الذي يبدو كجثة دون صوت. 

يكفي إذن أن تكتب “عائلة سورية” للإفصاح عن طلب المساعدة، في الوقت الذي يستهجن جميع من يمر أمامهنّ من السوريين ما يحدث. ويخوضون بالقرب منهنّ في المقهى الذي يلم الشتات السوري في ساحة سان ميشيل القريبة دفاعاً وهجوماً يمكن تلخيصه بـ “أنهنّ غير سوريات” قبل أن يركن الجميع للخلاصة.

في مفترق الطريق الذي يقسم شارع الأتراك والمغاربة ويوصل إلى ساحة المقهى شاب في الثلاثين من عمره رفقة زوجته وطفلتهما. يفترشان الرصيف وبجانبهما بعض خبز الباجيت الفرنسي، عبوة من عصير البرتقال التركية وعبوة مياه معدنية، ويحملان لافتة أكثر تصنيفاً هذه المرة: “عائلة سورية من حمص”.

يدور النقاش مرة أخرى ولكن بحدة أكبر.. ما الذي تعنيه “حمص” هنا؟ حمص عاصمة الثورة وعاصمة النكتة السورية؟ أولى الأحياء المحاصرة وباكورة التهجير القسري والقصف والمظاهرات وأغاني الساروت؟.. يذهب أحد الجالسين بعيداً في الحديث عن متاجرة بالثورة. يضحك بخبث أحدهم ليجيبه “نحن جميعاً كذلك.. نتاجر بالثورة”.. تلك ليست جريمة إنما “أسلوب حياة”.

بالقرب من محطة القطار في “غار سان جان” شاب بحقيبة جلدية سوداء وتسريحة شعر جديدة، يصطاد المارة، ويخبرهم بلكنة خليطة من اللهجات السورية إنه تعرض للسرقة، ويطلب منك نقوداً للعودة إلى بيته في مقاطعة قريبة. 

تستوقفني المشاهد الثلاثة للبحث في قصص التسول.. يرعبني الخط الفاصل والنقاش الذي سيدور حول اتهامي بالتنكر لسوريتي. سيسألني أحدهم “لماذا لا تساعدهم إذن وتوفر على نفسك الحرج الذي يدور في المقاهي كل يوم”، ثم أقرأ على صفحة أحدهم في الفيسبوك سماها صاحبها “نبض حلب”: “بدنا طريقة نقنع فيها الشحادين أنو نحنا متلهم.. بس أنيقين”.. ثم أعود خمسة عشر سنة إلى الوراء..

عندما يكبو الجمل

حلب 2000-2012

ليست تلك البقعة كغيرها في مدينة حلب. تمتلك خصوصيتها من مزيج بين الغنى الفاحش والفقر المدقع. لا يعيشان معاً بالطبع ويفترقان بشارع ودوار كبير يطلقون عليه اسم “الجندول”. 

على يسار الطريق مقاصف للطبقة العليا في حلب وعلى يمينه تتوزع عشرات المعامل وجميع محالج القطن. معمل كراش “للكازوز”، معمل بيرة الشرق ورائحته التي تملأ المكان، شركة النقل (الباصات)، مبنى الجيش الشعبي، وآلاف عمال المياومة بوجوههم قاسية الملامح وأكتافهم العريضة وبنطلونات الجينز والجمدانات الحمراء الملقاة على الكتف والتبغ الرديء.

فصول من حياة متسول أنيق

نهر قويق. المصدر: صفحة كل شيء عن حلب (فيسبوك)

يمر من الحي “نهر قويق”. ومنذ استلام الأسد الابن للحكم، وبصفقة قيل وقتها إن النهر كان خدمة لصديقه الشخصي الذي كان يملك معظم مقاصف المنطقة، جرت مياه نهر الفرات عبر ساقية إلى المكان. تخلص قويق من رائحته النتنه وغرقنا نحن في الوحل.

“متل الجمَل” أخبرني والدي وهو يختصر ما يريد إيصاله لي عن “أبو أحمد” صديق غربته في حلب وهو يحاول إيجاد تفسير منطقي لما شاهده بعد خروجه من صلاة الجمعة منذ سنوات كثيرة مضت.

على باب المسجد في حي عين التل، حيث قضى “الجمل أبو أحمد” سنوات حياته عاملاً مياوماً في محالج القطن كان يفرش سجادة صلاته الصغيرة، يرتدي جلابية رمادية متسخة ويضع جمدانة (غطاء للرأس) كانت في يوم من الأيام بلون الزبدة. بقربه وضع حذاءه البلاستيكي وعكازاً يستعين بها للنهوض وصورة لأطفاله الخمسة الصغار وزوجته صاحبة القدم الواحدة تبدو عليها علامات الصبا والفارق الزمني الكبير عن “جملها”. يكتفي بالصمت أمام أعطيات المصلين دون أن ينظر في وجوههم.

هناك أشياء لا نفهمها ولا يمكن أن تجد لها تفسيراً منطقياً، تكون هكذا. خط سير ومراحل نتقبلها كما هي دون أن نعبث بها. هي في النهاية تنكأ جرحاً لا يمكن أن يكون قد شفي ولكن صاحبه اعتاد نزيفه.

في خمسينيات القرن الماضي رفض الجمل أي وظيفة عند الدولة. كان يتقاضى كعامل مياومة في محلجة القطن ربع راتب موظف في يوم واحد. الثمن كان “عرق العافية” و”الشباب الذي لن يدوم”. تزوج الجمل ست نساء لم ينجبن له سوى ابنة واحدة تعيش خارج البلاد منذ زواجها في الثمانينات. وحين بدأت مرحلة “كبو الجمل” تزوج من امرأة بساق واحدة أنجبت له خمسة أطفال لا يزيد عمر الكبيرة فيهم حين قابلته في العام 2002 عن عشر سنوات.

حتى مع تقدم الزمن بدا الجمل ضخماً جداً. كان مارداً بحق. يصل صوت سعاله إلى نهاية الطريق وهو يلف سيجارة من التبغ السائب “القشق” بيد واحدة وينفثها بسحبات معدودة. لم تكن الزيارة متوقعة إلا أننا قابلناها، أبي وأنا، بمزيج من الحفاوة والفضول.

كانت كلمات الجمل واثقة جداً، طلب مني كتابة رسالة لابنته يشكو فيها حاله قبل أن ينتقل للحديث عن تلك الشعرة من الانكسار في داخله. قال إنه قرر الإفصاح عن هويته الجديدة كـ “متسول”. وإنه سيذهب إلى قريته وقرانا جميعاً للوقوف على أبواب مساجدها.

أمام استهجان الفكرة قال لوالدي إنه كُسر، وإن اللحظة التي رآه فيها يحدق في وجهه على باب مسجد عين التل شكلت مفصلاً جديداً بالتخلي عن الاختباء. من سيخشى إذن؟ ولماذا عليه أن يخجل من ظروفه؟

في سنوات لاحقة صار للجمل صوت يطلب المعونة ويوقف المصلين ويسألهم الصدقة. يدخل بيوت معارفه وبيوتاً لا يعرف سكانها ويروي حكايته. وأمام واحد من المساجد لفظ آخر أنفاسه وهو يحمل الصورة القديمة ذاتها لعائلته. مع فارق وحيد.. كانت معالم الصورة قد اهترأت وتكسرت زواياها وتخللها خط أبيض من آثار طيها في جيوبه.

مقابل صورة الجمل صور أخرى لمشاهد كنا نراها في مدينتنا عن أطفال متسولين بثياب رثة. نساء يستجدين بلباس أسود ووشاح مرميّ على الرأس كيفما اتفق وملامح أقرب إلى “القرباط”.

في حلب نادراً ما تجد أنثى متسولة وهو لا يعني كفاف معظم العائلات بل ربما يتبع ذلك لحساسية دينية تعيشها المدينة، خاصة في أحيائها الشعبية. أشخاص من ذوي الإعاقة ونواب عن عائلات متعففة يجمعون التبرعات، ولا تجد في وجوه معظمهم نوراً يريح قلبك. يمنع الحياء والارتباط العائلي الاسمي و”الوهمي أيضاً” وجود المتسولين في القرى. تخاف العائلات على أسمائها ويكتفي المحتاجون بالصبر والجوع.

قدمت السينما والتلفاز عشرات الأعمال الدرامية حول قضية التسول. معظمها أظهرت صورة نمطية للمتسول المخادع، أو لأطفال مستغلِّين من قبل عصابة أو أب ظالم يفرض عليهم ممارسة “الشحادة” ويضربهم بعد كل ذلك. ونادراً ما أظهرت هذه الأعمال المتسول كنتيجة لواقع معاش تتحمل مسؤوليته الحكومات، الأغنياء، المؤسسات، الآخرون .. نحن. والتعاطف معه أو معها كان دوماً من منطق الشفقة. 

يبدو ذلك كله في إطار محاربة هذه “الظاهرة” لا إيجاد حلول لممتهنيها. محاربة “جريمة” عقوبتها السجن لمدة تتراوح بين شهر إلى ستة أشهر للبالغين، وشهر واحد للقصر يودعون فيه ضمن الإصلاحيات في أجنحة خاصة.

السّتر.. ثم انكشاف الحال

2011 -2013 

لكل زمن ظروفه وشخوصه ومتسولوه أيضاً. إذ أفرزت الحرب السورية وخلال مسار تدريجي زيادة في عدد المتسولين وتنوعاً في أساليب الاستعطاف، في ظل غياب كامل للطبقة الوسطى التي كانت مصدراً هاماً لتحقيق التوازن الاجتماعي وتقديم المساعدات. 

يعيش نحو 86٪ من السكان في سوريا تحت خط الفقر، ثلثهم تحت خط الفقر المدقع. في الوقت الذي ظهرت فيه وفي مختلف المناطق طبقة جديدة من الأغنياء الجدد، يصنف تحتهم أمراء الحرب، القادة العسكريون، الشبيحة والسارقون، تجار الأزمات، صناعيون وجدوا لسلعهم تصريفاً وقت الحرب لينتقلوا من أصحاب ورش صغيرة إلى أصحاب رؤوس أموال، موظفون في مشاريع أممية يتقاضون رواتب عالية بالعملة الصعبة، بائعو آثار، مخبرون، سماسرة..

ولفهم السياق التاريخي لهذه التحولات علينا أن نفرق بين سنوات الحرب الطويلة والتي ما تزال مستمرة حتى الآن. نحن اليوم لا نعيش آثار هذه الحرب، بل نعيش الحرب ذاتها وما يرافقها من موت وانهيار اقتصادي وانعدام لفرص العمل ونزوح.

أفرزت الحرب السورية وخلال مسار تدريجي زيادة في عدد المتسولين وتنوعاً في أساليب الاستعطاف، في ظل غياب كامل للطبقة الوسطى التي كانت مصدراً هاماً لتحقيق التوازن الاجتماعي وتقديم المساعدات. 

ولكل منطقة في زمن الثورة السورية خط زمني يختلف أو يتفق مع باقي المناطق. إلا أن السنتين الأوليتين للثورة كانتا تمتازان بحالة من الطهر والتعاطف وغنى بالمشاريع الخدمية وهو ما أجّل كسر الحاجز بين الحق والتسول، أو بين “انكشاف الحال والستر” بتعبير أدق وأقرب إلى الحياة.

لا تفترق المراحل التي مرت بها ظاهرة التسول عند “الجمل” عما نشاهده اليوم، لكنها اختلفت بطريقة التعاطي، اللباس، الحركة، الجمل المنطوقة والمفردات، شعور الضحية المتنامي والذي تحول إلى جلد أيضاً للجميع في آن معاً.

تتبع ظاهرة التسول توصلك إلى أعداد كبيرة في مختلف المناطق تزيد عن الآلاف المنتشرين في الشوارع، أمام أفران الخبز، الصيدليات، الأسواق الشعبية، المساجد، الشوارع الكبيرة، المحلات التجارية، المدن الوليدة، وعلى خطوط الجبهات.

أولاد بوجه واحد

إدلب 2018

“سوريا المصغرة”، يصف الأهالي مدينة إدلب التي كانت منسية قبل سنوات. لا تقع إدلب المدينة على أي من خطوط العرض الحكومية السورية. هناك في الشمال في أقصى كل شيء، لا يقصدها إلا سكانها وبعض الباحثين عن أختام رسمية.

تحولت المدينة التي خرجت بكاملها عن حكم النظام في العام 2014 إلى قبلة لجميع الباحثين عن مكان خارج عن سيطرة نظام الأسد. يقول آخرون إنها باتت “منفى” للجميع. كثر من سكانها القدامى غادروا مع النظام إلى مناطقه، دعوات كثيرة لإحراق المدينة بمن فيها تدور على الألسنة هناك، وفي المفهوم الجمعي عند موالي النظام: “لماذا لا نجمعهم في مكان واحد قبل البدء بإنهائهم جميعاً؟”.. هي معتقل إذن ومصدر خوف ورهبة في الوقت ذاته. 

تغص المدينة بساكنيها من مختلف المناطق السورية. يظهر ذلك في تنوع اللباس واللهجات ومحلات الأطعمة. من النادر اليوم أن تجد متسعاً لك في شوارعها. “لم يبق خرم إبرة ليس فيه ساكن.. حتى البيوت على العظم والمزارع المجاورة”، يصفها من يتابع أخبار النزوح والسياحة في مدينة منكوبة.

هناك فارق بين التسول كحاجة أو كمهنة. وفي كلتا الحالتين لم يعد الخط الفاصل بينهما واضحاً للعيان. ليس هناك تسول مؤقت في ظروف الحرب. 

أطفال الشوارع أقرب الصور القديمة للتسول، وغالباً ما تغلف اليوم بطرق جديدة تعتمد على بيع أحد المنتجات من البسكويت والعلكة أو مسح السيارات وبيع الورد. وتختلف هذه الطرق تبعاً للمنطقة إذ لا يصلح بيع الورد في منطقة لا يسمح فيها للحب بالمرور، ويعتبر وجود امرأة مع شخص ليس من أصولها جريمة. ولا يصح أن تباع أنواع رديئة من المأكولات في مطاعم المدن الكبيرة.

تحولت إدلب التي خرجت بكاملها عن حكم النظام في العام 2014 إلى قبلة لجميع الباحثين عن مكان خارج عن سيطرة نظام الأسد. يقول آخرون إنها باتت “منفى” للجميع. كثر من سكانها القدامى غادروا مع النظام إلى مناطقه، دعوات كثيرة لإحراق المدينة بمن فيها تدور على الألسنة هناك، وفي المفهوم الجمعي عند موالي النظام: “لماذا لا نجمعهم في مكان واحد قبل البدء بإنهائهم جميعاً؟”.. 

يقول من تحدثت معهم آنذاك من أطفال، وهم فتاتان وصبي في إدلب إنهم وجدوا بأنفسهم أفضل الطرق للوصول إلى المارة واختيار الطريقة التي يعملون بها، وإن هناك تبديل شبه يومي للأماكن كيلا تؤلف وجوههم. 

يشبه ذلك الروتين اليومي. وكأن جميع المارة من حي معين في مدينة كبرى كإدلب، يعيش فيها اليوم ما يزيد عن سبعمائة ألف شخص من نازحين وسكاناً، يكتفون بشوارعهم ذاتها ولا يمتلكون فضول المرور بشوارع جديدة أو أسواق أخرى، وأن الغربة عن المكان يجعلك تدقق في الوجوه بشكل أكبر. 

تخبرنا الفتاة أنها دائماً ما تواجه بإجابة “مو من شوي اشتريت منك” وإنها تتفقد وجهها الذي لم يمر من هذا المكان منذ أسبوع على الأقل لتصل إلى فكرة من “التشابه” مع جميع الأطفال ممتهني التسول.

تقول ندى الحسين وهي أخصائية بعلم الاجتماع إن ذلك التشابه ينبع من الصورة النمطية التي يرى بها الأشخاص العاملون في مهنة محددة ومجموعة الصفات الراسخة عنهم في التفكير. شخصية الطفل المتسول هي “كاركتر واحد” يمكن لجميعنا رسمه أو تخيله بناء على مشاهدات سابقة وهو ما يدفعنا لتخيل صورتهم في كل طفل نلتقيه إن لم يترك أثراً واضحاً مخالفاً لتلك الصورة.

فصول من حياة متسول أنيق

جانب من العيد في إدلب. المصدر: فوكس حلب

يلتزم الطفل الذي قابلناه بنظرية الأخصائية الاجتماعية دون أن يتعلمها من أحد. تفرض التجربة وحدها تلك الخبرات المتراكمة عند طفل لا يتجاوز الرابعة عشر من العمر. يروي لنا إنه يملك ثلاث بدلات من الملابس. ولكل شارع يرتاده لباسه الخاص وتسريحة الشعر الخاصة أيضاً. ليس بين ملابس الطفل ثياباً رثة. جميعها ثياب أنيقة ومتوافقة الألوان إلا أنه يرتدي الجلابية البيضاء التي يمتلكها مع قبعة الرأس حين يكون دوره بالذهاب إلى السوق.

لماذا ليس المسجد؟ نسأله، فيخبرنا أنه يريد مخالفة المتوقع ليترك صورته عالقة في الذهن. ثياب بيضاء في شوارع موحلة ومكتظة يحاول جاهداً الحفاظ عليها نظيفة، تلك الصورة تقربه من المارة وتمنحه ثقتهم على حد قوله.

يبتسم وهو يدرك تأثيره علينا ليكمل بأنه يرتدي بنطالاً من الجينز الأسود وكنزة حمراء. يسرح شعره ويضع عطراً حصل عليه من أحد المحلات بعد حديث طويل مع صاحب الدكان. ثيابه تلك تكون أمام الجامعات وفي الشوارع التي يعرف أصحابها بقدرتهم المادية. أمام حيرتنا يخبرنا إنه يبحث عن طلبة “عشاق”، وإنه يحفظ أغان يلقيها أمامهم لجذبهم. هم غالباً لا يهتمون لأمره ولكنهم يحاولون لفت انتباه حبيباتهم أو أحبابهم ويجدون في التقرب منه فرصة لإرسال الرسائل. عليه إذن أن يكون ساعي بريد في الجامعة، بلباس ورائحة عطرة، بينما يرتدي بنطالاً من الجينز لباقي الأحياء. 

يضحك مجدداً وهو يخبرنا أن الأيام المتبقية من الأسبوع “تحصيل حاصل” و”أياً كان ما أجنيه من البيع فهو مربح إضافي. أنا أركز على يوم الجامعة والسوق”.

لا يطلب الأطفال المساعدة بعبارات قديمة تحمل الكثير من الدعاء والاستجداء. يقول الطفل وتشاركه الطفلتان إنهم يعتمدون على مفردات جديدة يستخدمونه بحسب ما تسعفهم معرفتهم بالأشخاص الذين يستوقفونهم؛ النصر عند مقابلة أحد الجنود والعودة إلى المنازل للنازحين وحكاية قصص مؤلمة لسيدات فضوليات يسألونهم عن عائلاتهم. دائماً لا تكون من مثل “ما معنا حق خبز.. ما أكلنا من يومين” بل بناء قصة عن نزوح وقصف ومدرسة قديمة وأب أو أم استشهدا.. هناك أيضاً من يتبع الأساليب القديمة، يخبرنا الطفل، إلا أنه لن يعود “بغلّة كبيرة” فـ “الناس تعودت وما عاد فيه شي يأثر فيها”.

“كنت أغسل نفسي” 

بلدة الدانا 2019 

لم تغير السيدة (سنختار لها اسماً شائعاً مثل منى) مكانها في مدخل سوق للألبسة في بلدة الدانا في ريف إدلب الشمالي منذ سنتين. كان ذلك مع تحول البلدة إلى سوق ضخمة يغص بالسكان والوافدين لقربها من الحدود التركية وبعدها عن خطوط تماس الجبهات من جهة، وتحولها لمكان استثمار لأصحاب رؤوس الأموال من جهة أخرى.

تبدو الدانا أشبه بالمدينة، روادها من مختلف المناطق ولا تقل فيها أجرة المنزل المتواضع عن خمسين دولاراً وتصل إلى مئتي دولار في بيوت أخرى. في أسواقها بضائع مختلفة ومحلات لماركات عالمية معظمها يدخل من تركيا المجاورة. ويزيد عدد محلات الصرافة فيها عن عدد مطاعم السندويش.

تفترش منى الأرض تحتها حصيرة زرقاء اللون وبجانبها طفليها. لا يظهر من وجهها سوى عينيها وتضع أمامها علبة فارغة إلا من بعض قطع النقود المعدنية من العملة التركية.

تقول منى إنها أرملة منذ سنوات وإنها كانت تعمل كمستخدمة في واحدة من المدارس لتعيل أبنائها لكنها فقدت وظيفتها في مناطق سيطرة النظام، وإنها تخلت عن راتبها الذي لا يكفيها كأجرة طريق لاستلامه، إضافة لما تتعرض له من مضايقات على الحواجز ومتاعب في الطريق الطويل الذي يحتاج ليوم كامل للوصول.

ما تزال منى في الخامسة والثلاثين من العمر لكنها ترفض الزواج مجدداً بعد موت زوجها. تقول إنها “تحبه” وإنها ستعيش لأطفالها وهو ما تخبر به السيدات اللواتي يتوقفن عندها للحديث.

“الحرب جرأتنا على كسر كل القواعد” تبدأ منى حديثها معنا، فهناك “حالة من القبول، دون رضا، عن كثير من الأشياء التي لم يكن لنا أن نمارسها سابقاً. كان يمنعنا الخجل والخوف من العائلة”. تخبرنا أيضاً أنها حصلت على الشهادة الإعدادية وأنها تجيد القراءة والكتابة بشكل جيد وتتابع الأخبار وتقرأ المقالات.

تروي منى: “اليوم الأول الذي قررت فيه النزول إلى الشارع كان أصعب القرارات التي اتخذتها في حياتي. ترددت كثيراً وأنا أمشي في الطرقات وحيدة وباردة، بعد أن ضاقت بي سبل البحث عن عمل وتأخر علي دفع الإيجار لشهرين متتاليين. حين وصلت إلى هنا -وأشارت إلى مكان جلوسها- سقطت من التعب والإعياء. وبعد دقائق وأنا مطرقة رأسي في الأرض حصلت على أول مبلغ من التسول في حياتي لأدخل بنوبة بكاء. في نهاية اليوم كنت قد حصلت على مبلغ خمسة آلاف ليرة سورية. لم نكن وقتها قد استبدلنا العملة بالتركية. وكانت تساوي مبلغاً لا بأس به اشتريت به طعاماً لأطفالي وقمت بالاستحمام. لا أعرف لماذا ولكني شعرت أني أغسل منى القديمة لبداية حياة جديدة”.

تلومنا منى جميعاً. تقول إننا المسؤولون عن ظروفها أيضاً. لا يمكن أن يترك شعب كامل لقدره، فالمفاضلة هنا كانت بين “أن أغدو متسولة أو أتخلى عن أطفالي، أو ربما يموتون جوعاً وبرداً”.تقول إنها لا تطلب من أحد، هي فقط تكتفي بالدعاء للأشخاص الذين يقدمون لها المساعدة. هي لا تحتال على أحد، وإنها تشعر بأنها تمارس عملها في كل يوم كما كانت في الأيام الماضية حين عملت كمستخدمة، وبساعات عمل محددة.

فصول من حياة متسول أنيق

المصدر: زمان الوصل

صورة جديدة بحذاء رياضي أبيض

لبنان بعد الانفجار- سبتمبر 2020

مئات الكيلو مترات تفصل منى عن الفتاتين اللتين تعيشان في مدينة صيدا اللبنانية. تتكلمان بلهجة هجينة بين السورية واللبنانية. إحداهما محجبة أما الأخرى فاختارت أن تكشف عن رأسها، وتشتركان معاً بوضع نظارة سوداء على عينيهما وبحذاء رياضي أبيض ترتديانه.

توقف الفتاتان المارة في الطريق، تسألان الناس عن أصحاب المحلات وأسمائهم قبل الدخول إليها. تبحثان عن عمل وترويان قصة جديدة عن والدهما الذي قضى في تفجير بيروت الأخير وعن منزلهما الذي تدمر. يعرفن عن أنفسهن كسوريات وأحياناً كلبنانيات. يقول صاحب أحد محلات الصاغة في صيدا إنه يعرف أنهن لسن لبنانيات، “لا يوجد لبنانية..” ولا يكمل.. ثم يتساءل مستنكراً بلفظة “مو؟”.. لكنه يساعدهن في كل مرة، يخبرنا إنهن “أنيقات وبنات عز”.

في محل الحلاقة الرجالية دار حديث طويل معهن. روين قصتهن للمنتظرين على الدور، إحداهما درست الرياضيات والأخرى المحاسبة في جامعات سورية. أخرجن أوراقاً رسمية وجوازات سفر سورية ليرينها للجميع. تكلمن عن والدتهن المريضة وبحثهن عن منزل بعد تهدم المنزل الذي استأجرنه في بيروت وخروجهن منه، وأيضاً خسارتهن لمحل البقالة الذي كان يعمل به والدهن.

كانت القصة مقنعة ومؤلمة.. يخبرني محمد، وهو صديق وصحفي وأحد الحاضرين على الحادثة. معظم الموجودين تعاطف معهن وقدم لهن المساعدة. أحدهم دفع مئة ألف ليرة لبناني وهي أجرة عامل مياومة لثلاثة أيام في لبنان. يقول محمد “إنه الرجل أخبره أن يده لم تطاوعه لدفع مبالغ قليلة كتلك التي تعطى للمتسولين. هم ليسوا كذلك”.

تلك صورة جديدة للتسول ستأخذ مكان مشاهد قديمة عن نساء بثياب سوداء حزينة ووجوه متعبة و”شحاطات” من النايلون ويد ممدودة لا تحصل سوى على فئات نقدية صغيرة.

يكمل محمد أن الفضول دفعه لملاحقتهن. رآهن يدخلن إلى معظم المحلات، وبعد نحو ساعتين توجهن إلى شارع بعيد ركبن سيارتهن وغادرن المكان. يقول إنها كانت سيارة قديمة بعض الشيء من نوع BMW. بعض أصحاب المحلات يجمعهن بمحمد علاقة شخصية، أخبروه عند سؤالهم عن الفتاتين إنهن يبحثن عن عمل وتركن أرقام هواتفهن. حين اتصل محمد بالرقم كان خارج كل شيء، المكان، التغطية، والتعاطف.

لا يتذكر محمد الكثير من ملامح الفتاتين إلا أن ما علق في ذهنه تلك الأناقة في الثياب التي يرتديانها. بنطال أسود مع قميص زهري اللون وحجاب من اللون الأسود بنظارات سوداء وحذاء رياضي أبيض وحمرة زهرية. كذلك بنطال من الجينز الأزرق وكنزة رمادية عليها رسوم سوداء وحمرة خفيفة لامعة. 

يقول محمد تلك صورة جديدة للتسول ستأخذ مكان مشاهد قديمة عن نساء بثياب سوداء حزينة ووجوه متعبة وشحاطات من البلاستيك ويد ممدودة لا تحصل سوى على فئات نقدية صغيرة.

ضمير مرتاح 

الجميلية -حلب 2020

قريباً من حي الجميلية بحلب، وهو أحد الأحياء الجميلة القديمة في المدينة ويعتبر أحد مراكزها خلال سنوات الحرب ويفضي في نهايته إلى ساحة سعد الله الجابري الأهم في حلب، وفي طرفها المقابل لجسر الرازي الذي يفصل الجميلية عن شوارع أكثر حداثة وغنى.

منذ بداية الثورة السورية تحولت شوارع الحي الذي بقي بيد النظام إلى عش دبابير. مئات العائلات توجهت للسكن في الحي الذي كان قبلاً حكراً على عائلات محددة بعد هجرة سكانه أو توجههم للعيش خارج حلب التي تحولت إلى جحيم. غزت البسطات شوارع الحي بأكلمها. بات من الصعوبة المرور ماشياً في طرقاته. وفتحت دكاكين تجارية على عجل لتحتل مكانها بدلاً من محلات متناثرة كانت هنا وهناك. مكتبتان في بداية الحي حافظتا على تجارتهما الخاسرة بينما طغت مطاعم الوجبات السريعة ودكاكين السمانة على كل شيء آخر. في الحرب يبحث الناس عن الطعام والسلاح. تلك معادلة يفهمها الحلبيون جيداً لما عاشوه في سنواتهم العشر الماضية.

من الممكن ملاحظة عشرات النساء من المتسولات كل يوم. تخبرنا أم علاء (تسكن الحي منذ خمسين عاماً) أنها لا تستطيع التفريق بين “المتسولات والباحثات عن محلات الموضة في الشوارع”. تقول إنهن يرتدين ملابس وصفتها بالفاخرة لا تستطيع من عملها كمدرسة أن تشتري ما يشبهها، وأن صورة المتسول القديم رث الثياب لم تعد تنفع.

تستدرك أم علاء أن الصورة التي رسمتها ناقصة، إذ ما يزال هناك الكثير من المتسولات البائسات بالصورة القديمة ذاتها. تقول “جميعنا بات متسولاً بطريقة أو بأخرى”. وتتحدث عما أسمته بـ شكوى الحال، إذ ليس عليك أن تطلب المساعدة أو تفترش الطرقات. 

“في كل حديث مع أقربائنا أو معارفنا خصوصاً اللاجئين في أوروبا تجد صورة للتسول حاضرة بطريقة مهذبة.. الحديث عن غلاء الأسعار والرواتب القليلة وواقع البلد.. تسعير المنتجات وتناقلها، ثمن تحضير وجبة من الطعام.. الكلام عن أزمات مالية.. كل تلك حقائق إلا أن الطرف المقابل للحديث يفترض أن عليه فعل شيء واحد، تحويل النقود”. 

ثم تتابع: “لقد استمرأنا ذلك.. لا أعرف إن كان الأمر يدخل في خانة الخطأ ولكننا نفعله بضمير مرتاح. نحن أيضاً لا نكذب ولكننا بتنا أقل خجلاً. هناك ضريبة علينا أن ندفعها. نحن الذين ما زلنا نعيش آثار الحرب والخوف وهم الناجون من هذا الجحيم، هم أيضاً يلجأون إلى نفس الأسلوب في بلادهم.. ولكن بصورة مختلفة”.

فصول من حياة متسول أنيق

بازار الأربعاء في إدلب. المصدر: فوكس حلب

مشروع رابح للمنظمات

ريف حلب الغربي 2020

قضم معظم ما تبقى من الريف الغربي منذ بداية العام الماضي. نزح عشرات آلاف السكان من القرى شمال غرب حلب إلى المجهول. استوطنوا على عجل في خيام مؤقتة، تحت أشجار الزيتون، في بيوت غير مكسية، أخرى بإيجارات مستغلة. 

على طابور لتوزيع الإغاثة بريف حلب الغربي الملاصق لأرياف إدلب الشمالية يقف عشرات الرجال والنساء، يقول صديقي الذي يحب شخصية صدام حسين لسبب أجهله منذ صغرنا إن “الشوارب تهتز هنا”. أرسل إشارة استفهام ليشرح لي بمقطع صوتي عن ساعات حياته التي أمضاها في طوابير الإغاثة منذ سنوات، أليست تلك “شحادة” ونحن “متسولون” يسألني دون أن ينتظر أن أجيبه.

يطن هاتفي بعشرات المقاطع الصوتية، يتحدث فيها صديقي عن تحولنا إلى مستهلكين دون عمل. يتحدث عن سياسة الجزرة القديمة التي أمضى فيها السوريون حياتهم يبحثون عن شيء من الكرامة وحين وجدوها استباحت كرامتهم سلل الإغاثة والمساعدات الإنسانية.

يتساءل أيضاً عن طريقة محترمة تحفظ ماء الوجه. جميع تلك المنظمات قادمة من دول خارجية. لماذا إذن لا يتم إيصال هذه المساعدات بطرق صحية تمنع عنا الشعور بالذل، لماذا علينا أن نتملّق ونحتمل كل شيء للحصول على الطعام، وما الذي غيرته تلك المساعدات في نفوسنا وكيف حولتنا إلى عاطلين عن العمل.

مئات الملايين من الدولارات تصرف شهرياً على تلك المساعدات، هي تكفي لإنشاء معامل ومصانع ومدارس وورشات صغيرة، وتؤمن آلاف فرص العمل. لكن ذلك لا يحدث. علينا أن نبقى أتباعاً لنقبل بأي حل يفرض علينا. عليهم ترويضنا من جديد، يكمل قبل أن يروي، هو الحاصل على إجازة بمادة الكيمياء والذي يعمل اليوم في مكبس للقرميد، أنه طلب من الكثير من شبان المخيم الذي يسكنه العمل. معظمهم رفض ذلك بحجة الأجرة القليلة والعمل المتعب. إذن “نعيش على الإغاثة” التي كسرت الحاجز الذي أخبرنا عنه “الجمل” يوماً.

مئات الملايين من الدولارات تُصرف شهرياً على المساعدات، وهي تكفي لإنشاء معامل ومصانع ومدارس وورشات صغيرة، وتؤمن آلاف فرص العمل. لكن ذلك لا يحدث. علينا أن نبقى أتباعاً لنقبل بأي حل يفرض علينا. عليهم ترويضنا من جديد.

بعيداً عن الطوابير الطويلة يساهم الإعلام المحلي بكسر الحاجز. هو “التسول بحرفة” الذي أخبرتنا عنه أم علاء، من تصوير لحالات الإعاقة وتداولها في المواقع الالكترونية أو على صفحات التواصل الاجتماعي أو حتى بعض الزوايا الصحفية. “يشحدون علينا” يقول أحد تلك الحالات التي صورت، ويتضخم الأمر من خلال أحاديث عن كفالات ومبالغ مالية تصل لمن يقبل الظهور في هذه الفيديوهات. 

أليس من الأجدى أن نحافظ على خصوصيتهم وحياتهم؟ إلا أن الطريقة الأولى أثبتت نجاعة سترغم جميع هذه الحالات على القبول عاجلاً أم آجلاً. معظم الذين ظهروا في وسائل الإعلام حصلوا على مساعدات وتسابقت إليهم المنظمات. هم مشاريع رابحة أمام داعم أو ممول للتباكي، أما الذين لم يسعفهم الحظ فسيتركون لقدرهم علّ صحفياً يجدهم في الطريق.

الجبهة مكان آمن 

بلدة الأتارب 2021

“الشحاد له ثلثين البلاد” يقول مثل فلسطيني. لكن لم يعد في البلاد ثلثين لأحد. التنقل صار ضمن مناطق مقفلة والحركة محدودة. سائقو الحافلات يبحثون عن الوقود في طوابير طويلة على الكازيات تكلفهم أياماً للوصول إلى “فردها”. ليست مصادفة أن يطلق عليه اسم فرد وتعني “مسدس” في اللهجة السورية على المقبض الخاص بتعبئة الوقود.

في المقابل يسعر الوقود بالليرة التركية في مناطق المعارضة وتسيطر عليه شركة واحدة تسمى نفسها “وتد”. ليس مصادفة أيضاً إن عرفنا أن السمة البارزة في المكان هي “الخيام”.

المصادفة وحدها أوصلت الطفل “أحمد” إلى خط التماس. يسمونها “نقاط الرباط”، مكان في ريف حلب الغربي سيشتعل في كل لحظة. وبين لحظة توقفه واشتعاله يبدو أكثر أماناً من باقي الأمكنة.

التنقل هنا سيراً على الأقدام. لا تمنح في أرياف إدلب رفاهية أن تمد يدك لتكسي في الطريق. الطرق الفرعية ليس فيها حافلات خاصة  “سرافيس”، أما وسائل النقل العامة “الباصات” فذلك زمن نسيه الأهالي منذ زمن، وباتوا يكرهونه لارتباطه برحلات التهجير القسري.

كل شيء يتحرك بالقرب من نقاط الرباط هدف عسكري. الجميع خائفون وأيديهم على الزناد. ليس دائماً فهناك ساعات يركن الجميع فيها للكسل. حتى المقاتلون يحتاجون للملل ليكملوا حياتهم.

حظ الصغير الذي كان يبحث عن علب فارغة من النايلون والكولا ليشتري بثمنها طعاماً لعائلته وأمه المريضة، كما يقول، أوصله إلى إحدى تلك النقاط. العدو في هذه المنطقة يكون فقط في الجهة الأمامية. ما يتحرك خلفك هو صديق لك. 

أرشده صاحب البندقية السوداء، كما يقول أحمد، إلى الطريق الصحيح كيلا يتوه. أعطاه نقوداً وربطة من الخبز أيضاً وطلب إليه ألا يعود.

إخفاقات أحمد في البحث عن العلب الفارغة جعلته يعاود في كل يوم تيهه في المكان، ووصوله إلى نقاط أخرى. يقول إنه لا يخاف الموت. المكان آمن جداً ولكل مكان من يحرسه.

“أحيانا ما بيعطوني مصاري بس خبز وبطاطا، ومرات بيعطوني مصاري حسب كل مرة شكل”، يقول أحمد إنه يبحث عن رزقه من مهنته الجديدة بعيداً عن التسول في المدن التي تغص بأمثاله. بنيته الضعيفة تحول ربما دون قدرته على مواجهة تنمرهم عليه وطرده من المكان. “هنا أشعر أني الوحيد الذي يقوم بهذا العمل ما يزيد من فرصة حصولي على المال”.