fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

“نويت التوبة”.. عقدة ذنب اسمها الموسيقى

ربما شعور بعدم الراحة مع النفس يدفع موسيقيين ليبيين، مغنيي هيب هوب وراب أو حتى موسيقيي المالوف والزكرة، إلى التوقف عن الغناء واختتام مسيرتهم بـ "شريط توبة"..
ــــــــ رُبع صوت
3 يونيو 2021

“جميلة وما ريت كيفك جميلة، واسماك ليلى، وعندي مع الليل قصة طويلة”. 

هذا مقطع من أغنية مرسكاوي، أول مرة استمتعت فيها للأغنية كنت في السنة الثانية من دراستي الجامعية. بعد أول مرة، أدمنتُ “جميلة” وأدمنتُ الاستماع لمبدعها الفنان إبراهيم الصافي، أحد ركائز فن المرسكاوي. لم يمضِ وقت طويل منذ معرفتي بالمبدع، لأعرف أنّه تاب. عندها شعرتُ كأنني أخون توبة الصافي في كل مرة أسمع فيها له. 

لم يكن مصطلح التوبة جديداً عليْ. في عائلتنا، لم يكن هناك إلا فنان واحد، فتحي النّعاس. نحن عائلة اشتهرت بالعلم الشرعي؛ سيدي حمَد النّعاس، أخ جدي، كان فقيها وحافظاً للقرآن وشيخاً جليلاً يصلي بالناس ويخطب فيهم في بلدة تاجوراء، بنى مسجد الصمامة في ريف البلدة الجنوبي بسيدي خليفة، واعتنى بأن يربي كل أبنائه وأحفاده على حفظ القرآن.

كان فتحي أحد أبنائه، أخذته الدنيا لعشق موسيقى المالوف، وأخذه اتقانه للقانون لأن يكون فرداً ضمن فرقة الشيخ حسن عريبي للمالوف والموشحات الطرابلسية، كما كان عضواً ضمن فرقة تاجوراء للمالوف والموشحات. حلف عليه سيدي حمَد، كما خبرني أبناء العمومة، أن يترك الغناء والعزف على القانون وإلا لن يرضى عنه، عندها تاب فتحي وترك الفن الذي عشقه إرضاءً لسيدي حمَد. 

أحياناً، بينما أشاهد فيديوهات لفرقة حسن عريبي، يمكنني أن ألمح فتحي في الصف الأمامي خلف شيخ المالوف يهزج بالغناء خلفه مستمتعاً باللحن والكلمات التي تخرج من فؤاده. 

“جاني المرسول، بجناح الحمامة. مكتوب، بالصوب، ودموع الندامة”، يغني إبراهيم الصافي في عملٍ آخر. وأنا أيضاً أتاني المرسول، يخبرني أنّ الصافي تاب عن الغناء بعد أن اعتمر إلى بيت الله وعاد إنساناً جديداً. 

رواية صدقتها لزمن حتى أخبرني صديقي حسام الثني أن ثمة رواية أخرى متداولة في بنغازي، عن أنّ توبة الصافي كانت بعد أن ناداه الساعدي القذافي لإحياء حفل فني عنده في طرابلس، وعندما تأخر الصافي عن الدعوة، لقنه الساعدي درساً في التأخر عن تلبية دعوة ابن الزعيم وأهانه بالضرب وتسليط كلاب الوِلف (الجيرمان شيبارد). 

خرج الصافي من فك كلاب الساعدي والساعدي نفسه، منكسراً وحزيناً، وشعر أنّ الفن الذي عشقه هو سبب ذله ومهانته وأعلن توبته منه.

ألبوم نهاية الخدمة

أحياناً وأنا أنصتُ لنوبات الزكرة، إحدى نوبات الغناء الشعبي التي تكون فيها آلة الزكرة الآلة الرئيسية، تمر عليّ مجموعة من التعليقات تنادي بحذف الفيديو من منصة يوتيوب؛ لأن الفنان المعني قد تاب لله والتزم – الالتزام في ليبيا يعني أنّ المعني أصبح “سلفياً”- ولا يجوز الاستماع لموسيقاه، بل إنّ الفنان نفسه دعا على كل من تسوّل له أن يسمع الموسيقى التي غناها أيام العربدة. 

أنا أيضاً مثلهم، ورغم أنني لم أكن يوماً مغنياً، ولا أنصح أحداً بأن ينصت لغنائي، فقد تبت عن الاستماع للموسيقى مرات عديدة. اخترعت لنفسي طرقاً شتّى للتوبة، بأن أتوب عن الاستماع لكل ما به آلات موسيقية عدا الدف، أو أن أختار آلات موسيقية بعينها كالمزمار لأترك سماعها.

أحياناً أخرى كنتُ أتوب عن أغاني الحب، ولاحقاً أتوب عن الأغاني باللغة الإنجليزية، هذا يعني أنّه كان بإمكاني الاستماع للإسبانية والإيطالية والفرنسية، وفي مرات كنت أقول لنفسي بأنّه لا بأس من الاستماع للموسيقى بأي آلة كانت مادامت موسيقى بها طابع ديني كالمالوف أو سامي يوسف. أذكر أنني وفي فترة ما، كنتُ استمع لفيروز فقط، لا بداعي أنّ لفيروز طابع ثقافي، فقط وجدت أنّ موسيقاها حتى التي تغني للحب، هي موسيقى نقيّة، ولا أظن بأنّ الله سيعذبني لأنني استمعت لها. 

التوبة ليست حاضرة بالانقطاع عن الفن والتخلص منه جسدياً فقط، هي أيضاً ثيمة حاضرة في الأغاني الشعبية الليبية. حيث يغني الفنان في العادة عن عزمه التوبة إما من حب النساء، حياة المجون التي يعيشها، الخمر، أو الغناء ذاته. 

بعض الفنانين في نهاية مسيرتهم الفنية، ينتجون ألبوم يسمونه شريط التوبة، لكن هذا لا يعني أنّهم سيتوبون فعلاً عن الفن، كما فعل الفنان المصري الليبي عوض المالكي. وتكاد تختفي هذه الثيمة تماماً من بقية الألوان الموسيقية في ليبيا، باستثناء بعض الحالات، كاعتزال الفنان الشاب علي المسلاتي للفن “بسبب ظروف عائلية ودينية ولأسباب خاصة”.

التوبة ليست حاضرة بالانقطاع عن الفن والتخلص منه جسدياً فقط، هي أيضاً ثيمة حاضرة في الأغاني الشعبية الليبية. حيث يغني الفنان في العادة عن عزمه التوبة إما من حب النساء، حياة المجون التي يعيشها، الخمر، أو الغناء ذاته..

نال علي المسلاتي شهرة واسعة خلال السنوات الثلاث الماضية، أنتج مجموعة من الأغاني التي عشقها الشباب من الجنسيْن، ومع كل أغنية جديدة ينتجها كانت شهرته تتسع و”تكتسح” أغانيه هاشتاجات مواقع التواصل الاجتماعي، وقبل آخر عمله أنتجه، أعلن اعتزاله، ولكن هذا الاعتزال لم يكن يعني المنتج الموسيقي الذي كان يعمل معه، لينشر أغنية “الله يسامحك”، لكن علي المسلاتي لم يسامح المنتج “أنا بالنسبة ليا مش مسامح، مادام العمل قاعد نازل”. 

يقول لي صديقي حسام الثني، إنّ المهدي البرعصي، أحد أهم فناني المرسكاوي، وعند اعتزاله للفن، أعلن أنّه لن يسامح أي شخص يستمع لموسيقاه، وكانت هناك مقولة يتداولها البنغازيون عندما يفتح أحدهم شريطاً للمهدي البرعصي، يقولون “المهدي موش مسامح”. وكان حسام عندما يستمع لصوت البرعصي الذي يعشقه، يشعر بتأنيب الضمير، وبأنه أيضاً مثلي، يخون توبة المهدي.

علاقة معقدة مع الموسيقى

تذكرني حادثة اعتزال علي المسلاتي بالأجيال الأولى من الفنانين. كان الفنانون الليبيون من نواحي البلاد في فترة الخمسينيات يتقمصون شخصية أخرى، باسم مستعار وطريقة حياة مغايرة عن التي اعتادوها في قراهم وأحيائهم ضمن عائلاتهم. 

كان -ومازال- هناك نظرة دونية لشخصية الفنان، لا لموسيقاه بالطبع، فالموسيقى متجذر حبها عند الناس في ليبيا؛ وهذا ما يبرر التسجيلات التاريخية التي توضح أنّ غالبية الفنانين في القرن التاسع عشر كانوا من خلفيات إثنية، اجتماعية أو دينية مغايرة للسائد. 

يحكي لي صديق عازف جيتار بسعادة غامرة في إحدى جلساتي معه في المقهى، أنّه منذ أشهر، ولأول مرة، وبعد أن أوقفته بوابة أمنية، بحث رجل الأمن في سيارته فوجد جيتار، سأله عنه ولماذا يحتاجه، أخبره صديقي أنّه يعزف عليه، قال له رجل الأمن “آه، معناها أنت فنان؟”. لم أصدق الابتسامة الطفولية التي ارتسمت على وجه الصديق وهو يحكي لي القصة، كأنّه، ولأول مرة في حياته يتحصل على التقدير الذي يبحث عنه. 

هذه العلاقة المقعدة مع الموسيقى، يمكن تتبعها وتحليلها في واحدة من أكثر أنواع الموسيقى شعبية حالياً، لا في ليبيا فقط بل في العالم. تمكنت موسيقى الهيب هوب من الوصول لآذان الشباب الليبي، وذلك بفضل قدرتها على الغناء عن مواضيع أخرى عدا الثيمات الرئيسية في الفن الليبي كالعشق، الوطن، المدائح الدينية، العائلة، الشوارع القديمة والزمن الجميل؛ الراب تمكن من الحديث عن هموم وطموحات الشباب الليبي. 

الشباب الذي ينام في “المربوعة” فوق فراش على الأرض، الذي يحاصره الموت من كل مكان، وبالطبع، وكما يغني أغلب الرابريّة، يقصدون الشباب عامة عدا أبناء المسؤولين والوزراء وأمراء الحرب الذين لا يدرسون على شمعة عند انقطاع الكهرباء، ولا يعرفون كيف يعيش الإنسان الليبي ومصاعبه في العثور على الخبز والبنزين والوقوف في طوابير طويلة أمام المصارف، كما غنى مراد الليو متحدثاً للوزراء يسائلهم عن أبنائهم في تراك عيشة صعبة “زعما جسمه مس حوايج من الرشيد… زعما مدموغ والا مضروب ولا مخبش، زعما يعرف شن معنى كلمة مستورة، زعما يعرف شن كلمة مكسورة”.

مراد الليو، الرابر الراحل في 2014، تملأ تراكاته يوتيوب. يعد الليو أحد الأباء المؤسسين للراب الليبي في صورته الحالية، وقد خرج بعد وفاته مجموعة من الرابرية الذين يرونه مثلاً أعلى لهم. في قائمة التعليقات على فيديوهات مراد الليو، يمكن بسهولة اكتشاف بعض المعلقين الذين يدعون له بالمغفرة وأحياناً يطلبون من المستمعين التوقف عن استماع تراكاته، فهو الآن في دار الحق، وقد تكون موسيقاه سببا في تعذيبه.

التعليقات نفسها تتكرر أحياناً عندما يعلن رابر اعتزاله، يطلبون له الهداية ويشجعون بقية الرابرية أن يهتدوا مثله، يتقبلونه بصدر واسع ويفرحون لأجله، ولكنهم لا يتوقفون عن الاستماع لموسيقاه؛ أحياناً الرابر نفسه يعود للغناء، فيستقبلونه كفنان مجدداً، لكنهم يظلون ينظرون له كشخص مذنب في حق نفسه وبأنّ عليه أن يترك الموسيقى. 

لم أجد هذا الشكل من التعليقات على فيديوهات لفنانين وموسيقيين كانوا يغنون الفن الشرقي الكلاسيكي أو المألوف أو الروك أو حتى الريجي. يبدو الراب، رغم كونه جديداً على ليبيا، الفن الوحيد الذي يتشارك مع الزُكرة والمرسكاوي هاجس التوبة والخوف من عذاب الموسيقى بين المستمعين له ومغنييه.

في قائمة التعليقات على فيديوهات مراد الليو، يمكن بسهولة اكتشاف بعض المعلقين الذين يدعون له بالمغفرة وأحياناً يطلبون من المستمعين التوقف عن استماع تراكاته، فهو الآن في دار الحق، وقد تكون موسيقاه سببا في تعذيبه

الراب راهو شبهة مش شهرة، شبهة مش شهرة“، يقول إمسي سوات في بث مباشر لرابر آخر يدعوه إلى التوقف عن الافتخار بكونه من أشهر الرابرية في ليبيا. 

إمسي سوات سطع نجمه خلال الثورة الليبية، واشتهرت تراكاته بالمواضيع السياسية التي ينتقد فيها الوضع في ليبيا سواء في عهد القذافي أو بعده، يعيش في المهجر ومتوقف عن الغناء، بسبب “وجود رهينة في بنغازي” – يقصد عائلته التي مازالت تسكن المدينة- يخاف أن يضرّها إذا غنى بحرّية. ورغم حب إمسي سوات للراب، فهو كما قال في الفيديو، يخشى أن يفصح أنّه رابر عندما يجالس ليبيين آخرين في المهجر، “والله نتحشم نقول أنا نغني في راب”. 

سراج الدين بوسنينة، الرابر إمسي ميقو، وفي مقابلة مع راديو تونسي يحكي قصته مع سجنه في جهاز النواصي، إحدى التشكيلات العسكرية في مدينة طرابلس، وبعد أن ينتهي من ذكر بعد تفاصيل حبسه الذي طال عاماً وأحد عشر يوماً، يقول إنّ النائب العام طلب منه الحضور، وفي غمار حديث معه، يعرض إمسي ميقو على النائب أن يترك الراب، “قلتله معادش نحب ندير موزيقى، وكان تحب ندير ورقة متاع استتابة إنّي تبت، قالي شن تحسابنا داعش؟”.

عند خروج إمسي ميقو من مكتب النائب، طلب منه أن يغني له، ولكن خوف ميقو جعله يقول له بأنّه تاب وبأنّه لا يرغب أن يكون له علاقة بالراب مجدداً.

ميقو لم يتوقف عن الغناء رغم مرات اعتزاله المتكررة، غنى قليلاً “راب هادف”، ولكنه عاد مجدداً لكونه إمسي ميقو الذي يغني بحرية، حتى أنّه أصدر فيديو كليب مع قناة، يظهر فيه صحبة فتيات وقنان خمر، على شكل أغاني المغني الأمريكي ريك روس التي يتندر بها الرابرية الأندر ضد ميقو، الفيديو كليب أثار سخط الكثير من عشاق الهيب هوب وإمسي ميقو. 

هذه العلاقة المضطربة مع الراب لا تظهر فقط في المقابلات وسيرة حياة الرابرية وانقطاعهم عنه وعودتهم مجدداً له، بل تظهر أيضاً في بعض مقاطع الموسيقى التي ينتجونها. ورغم أنني لستُ من مناصري تحليل فن الراب وتسليطها على واقعه وشخصيته وما يحبه وما يكرهه، فالفنان يكون في حالة مختلفة على شخصيته عندما يغني، وبهذا أحاول دائما أن أفصل أفكاري وانطباعي عن الأغنية عند الاستماع لها؛ ولكن تكرار ثيمة الرغبة في اعتزال الراب لأسباب مختلفة، في تراكات الرابرية وتناصها مع شخصية الشاب الليبي وطموحاته ومخاوفه، بل وتماهيها مع سيرة حياة فناني الموسيقى الشعبية، يجعلني ألحظ تكرر ثيمة التوبة في أغاني الراب.

“حتى عقلي وقلبي صاير بيناتهم موضوع اخي… عقلي يقولي فوت الراب لكن قلبي متعلق بيه”، يغني المعتصم وايت بوي في تراك صراع؛ ورغم أنّه يغلب عليه طابع الرغبة في التوبة والبحث عن الخلاص، إلا أنّ وايت بوي يقدم تراكات أخرى فيها تختلف عنها وتناقضها في الكلمات والموضوع، لكن هذا التراك بالذات تتضح فيه صراعات الشباب الليبي الذين يمثلهم وايت بوي وباد بوي، الرابر الذي يشارك وايت بوي في التراك، حيث يقول “نفسي تبي اتوب وشيطاني ساكن متعنت..حتى دعينا، دعاوينا مست الحيوط وولت، حتى نقصت الموزيقا أرقامي معادش رنّت”. 

تكرار هذه الثيمة لا يعني أنّ الراب في ليبيا هو راب دعوي أو “هادف” في مجمله، راب يشبه الراب المسيحي أو الإسلامي في أمريكا، الراب الذي تكون فيه مواضيع الأغاني تتمحور حول الدين والدعوة للقيم الصالحة والتوبة، هو راب ليبي وكفى، فالرابر نفسه الذي قد يغني عن الرغبة في التوبة وحاجته لترك الموسيقى، هو نفسه قد يغني في تراك آخر عن خيانة الأصدقاء، الواقع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد والحرب والسياسة، وهو نفسه الذي يدخل غمار معارك الراب عندما يهجوه رابر آخر، بل أحياناً يخالف الوصايا الدينية والاجتماعية نفسها وينطق بالبذاءة في حق غريمه، خصوصاً إذا عرفت أنّ الهجاء (Dissing) هي الثيمة الغالبة في معظم تراكات الراب في ليبيا. 

الموسيقى لدى دار الإفتاء

“خاش للراب مش خاطر فلوس جمع مكاسب”، يغني أدامي، أيضاً، مبرراَ أنّه تربى على هذا الفن منذ طفولته، وأنّه لم يرغب بالدخول له لولا أنّه وجده “فيا يناشب”، ولهذا هو يغني لتصليح المجتمع من ما يراه فاسداً، فهو يرى الفن أداة قوية، وهو مستعد للتضحية بنفسه والوقوف للحساب يوم الحساب، ” الموزيقا حرام ما ننكرش، يوم غدوا بنتحاسب”. هذه التضحية كفيلة لتوعية الغافلين وللدفاع عن الحق. 

يعيش الشاب في ليبيا معارك نفسية وروحية مختلفة، يخرج من مرحلة الطفولة فيكتشف العالم حوله مغاير عن القصص التي سمعها من أهله، تبدأ نظرته للعالم تتغير بدون بوصلة معينة لتوجهه في طريقه، إذ منذ عهد المراهقة يواجه الشاب مجتمعه بأوامر وطريقة تربية لازالت تراه طفلاً، لكن في تلك المرحلة لا يعترف بكونه طفلاً فيدخل العالم ويتعلم منه وحيداً، يمر بمرحلة تمرد ويرى الشارع بيته المناسب، حيث يمكنه أن يكون نفسه.

الرابر نفسه هو مثال عن هذا الشاب، أغانيه تتمحور حول خلاصة ما تعلمه من الدنيا، يتحدث عن الطفولة عندما يغني عن غدر الأصدقاء وصعوبة الحياة وتوحش الناس والمجتمع، ويتحدث عن البيتية والأخلاق الرفيعة التي تربى عليها في طفولته وكيف فاته أنّه نسي الكثير منها وتركها، ويرجو أن يرجع الزمن، حتى لا يندم مجدداً. 

يتعلم الرابر الراب كما في العادة يتعلم الفنان الشعبي فنّه، يتعلمه من الشارع ومن رغبته في الغناء والإنشاد ومن استماعه المطوّل للموسيقى، وحبه للشعر الشعبي، هو في العادة لا ينغمس مطولاً في نظريات الفن الذي ينتمي له إلا في مرحلة متأخرة، في الغالب لا يصلها غالبية الرابرية، على عكسِ فنان الروك؛ الذي حتى وإن بدأ تعلم العزف وحيداً، سيحتاج ليطوّر من نفسه أن يقرأ عن الفن ويدرس النظريات الموسيقية ويبحث أكثر في الآلة التي يعزفها وتطورها، سواء كانت تلك الآلة قيثارة أم بيز أم درامز.

هذا الانغماس في الفن دون دراسة أكاديمية له ودون بحث تاريخي عن تطور الفن في البلاد، بل بغريزة يتبعها الرابر، تجعله في علاقة معقدة مع فنّه، فهو في العادة لا يعرف أنّ المؤسسين الأوائل للموسيقى في ليبيا، في الغالب يأتون من خلفيات دينية متجذرة في المجتمع الليبي كشيوخ الصّوفية، وبأنّ فنّه لا يختلف كثيرا عن موسيقى المالوف والموشحات التي قد يعشقها ويرتلها في المناسبات الدينية والاجتماعية. 

هناك علاقة معقدة بين الرابر وفنّه، فهو في العادة لا يعرف أنّ المؤسسين الأوائل للموسيقى في ليبيا، في الغالب يأتون من خلفيات دينية متجذرة في المجتمع الليبي كشيوخ الصّوفية، وبأنّ فنّه لا يختلف كثيرا عن موسيقى المالوف والموشحات التي قد يعشقها ويرتلها في المناسبات الدينية والاجتماعية

ولكن الأمر ليس كذلك في الواقع. مما يوضح النظرة الاجتماعية للراب وبقية الألوان الشعبية والتي تختلف عن موسيقى المالوف والموشحات أو الموسيقى الطربية أو “البوب” الشرقي، هو غياب وجود فنانات فيه، ينذر وجود النساء في المرسكاوي، ولا أعرف غير خديجة الفونشة من النساء اللائي غنين المرسكاوي، كما لا وجود لنساء يغنين الزُكرة.

توجد مقاطع نادرة لشابات حاولن دخول ساحة الراب الليبي، وهي مقاطع لا يمكن الاعتداد بها عند الكلام عن تجربة راب نسائية في البلاد، هي محاولات غناء باءت بالفشل، لأنّ لا أحد يريد الاستماع لراب ليبي تغنيه فتاة. أما بخصوص مستمعات الراب من النساء، فمن الممكن ملاحظة تعليقاتهن على الأغاني الجديدة على اليوتيوب ومن ثم هجومٍ الشباب، يخبرون الفتاة المستمعة أن تتوقف عن سماع الراب وأحياناً يشتمونها فقط لأنها أعجبت بالتراك مثلهم. 

يقتصر وجود الفتيات الليبيات في العادة في أغاني الراب على هيئة ضحكات أو وصلة تعريفية بشركة الإنتاج. هذا لا يعني أيضاً عدم وجود فتيات في الموسيقى، ولكن غالبا ما تكون الموسيقى “هادفة”، ولا تغني المرأة فيها راب، بل تغني كما تغني بقية الفنانات، ويظهرن في الفيديو كليب فقط إن كان أيضا هادفاً.

 هذا أمر يزيد وضوحه إذا ما قارنت ردود دار الإفتاء المصرية على الأسئلة حول الموسيقى وحكم الاستماع لها بردود دار الإفتاء الليبية على نفس الأسئلة، حيث تتخذ دار الإفتاء المصرية موقفاً أقل صرامة، تبيح بعض الأنواع وتحرم أنواعاً أخرى، أما دار الإفتاء الليبية فتحرم كافة أشكال الموسيقى حتى الوطنية والدينية منها مادامت مرتبطة بمعازف. 

موسم التوبة.. بعد النوبة

في لقاء له على برنامج أدرينالين – برنامج للمخرج الموسيقي أحمد كويفية-، يحكي الرابر كنقز داد، أحد الرابرز المفضلين عندي في الساحة الليبية، يحكي قصة البيف، معركة الراب بينه وبين إمدي مهدي الذي بدأ المعركة بنشر تراك في شهر رمضان يهجو فيه كنقز داد، يقول كنقز داد بأنّه نزل تراك له قبل رمضان بيوم  “بحكم رمضان ما انزلش في تراكات”، وبعد نزول التراك، اتصل به إمدي مهدي يريد أن يشتغل معه، ليخبره كنقز داد “أنا برذر توا رمضان، ما نقدرش نسجل”، مما جعل إمدي مهدي يرد على تراكه ويشعل خلافاً لم يكن موجوداً بينهما، خلاف أشعل واحدة من أطول معارك الراب في الساحة الليبية والتي لازالت آثارها موجودة حتى اليوم. تصريح كهذا، جعلني أفكر في أكثر في علاقة الرابر الفنان بفنّه. 

قد يكون هذا الرأي عجيباً من فنان، أن يصوم على الموسيقى، كأنّها إحدى شهوات النفس والجسد، ولكن إذا استمعت لتراكات كنقز داد، ستعرف ما الذي يقصده، فالتراك الذي وضعه في يوم واحد قبل رمضان، به مجموعة من الإيحاءات الجنسية تجاه موضوع الهجاء، وهو لا يريد أن يكون هذا التراك سبب في أن يفطر الشهر.

أمر غير مستغرب من شاب يعيش هُويات مختلفة ومتناقضة تجعله في صراع دائم مع نفسه. شاب يرى أنّه مخطئ في حق نفسه وبأنّ رمضان يعد فرصة للاستغفار والتوبة، وبأنّ ما قد يتجاوز عنه في بقية شهور السنة لا يمكنه أن يعيده في هذا الشهر. وهي نظرة عامة لليبيين تجاه رمضان، كموسم للتوبة والاستغفار يعودون فيها لله بعد غياب دام إحدى عشر شهراً. موسم يمكنهم في عيده أن يعودوا مجددا لحياتهم السابقة، يعودون للأخطاء وجمع الذنوب وأيضاً للموسيقى والرقص والحياة.

يغني الراحل الشيخ صديق بوعبعاب، الذي حمل التراث البدوي لغرب مصر وشرق ليبيا على عاتقيْه، والذي اشتهر في كافة التراب الليبي، ولازال الليبيون يحلفون باسمه، يقول في إحدى وصلاته الغنائية معلنا التوبة عن الغناء – وهو لم يفعل البتة حتى يوم موته- “نويت التوبة، عليا الطلاق نويت التوبة…نويت التوبة، بعد النوبة”. النوبة هي الوصلة الموسيقية، ولأنّها وصلة، يصعب أحياناً أن يتوب المرء منها.