fbpx
المشهد من Google Earth

كيف نعيد تركيب الموصل من أربع صور؟

يصل غبار المدينة للكاتب في منفاه. يحاول عبر الصور تركيب ذاكرة كاملة بُترت بخروجه من المدينة واستمر في تغذيتها من عواجل الأخبار والصور المُسرّبة.
ــــــــ المـكـان
7 ديسمبر 2020

قبل دقائق من انطلاق أول صفارة إنذارٍ معلنةً حرب الثمان سنوات مع إيران في أيلول (سبتمبر) 1980. كُنت أمدُ خطواتي وبقلقٍ طفولي بالغ في الممر الضيق لمدخل مدرسة الفتوّة الإبتدائية، متجهاً نحو الصف الأول شعبة (جـ). عثرت على هذا المشهد الحياتي، مختبئاً في تفاصيل صورةٍ مُررت لي على الفيسبوك، التُقطت من الجو لنهر دجلة وهو يشطر بسكين جريانه الهادر، مدينة الموصل (350 كم شمال بغداد) إلى قسمين.

فأنا واحدٌ من الذين يُبقون الماضي حياً في دواخلهم من خلال الصور وبوسعهم الدخول عبر بوابات ما تظهره للحصول على كنوزهم من الذكريات. ولقطة فوتوغرافية واحدة، يمكن لها أن تختصر سنوات عمري التي ناهزت الخمسين، بكل ما فيها من حروب وحصارات واحتلالات وفقدان للأمن والأمل. 

 عبر هذه الصورة (أعلاه) التي التقطها موقع “غوغل ماب” ينفرجُ بابُ مدرستي، إنها هنالك في الجهة اليمنى مكتملة، والأشجار الأربع المتجاورة في ساحتها مازالت واقفة في محلها. لا أعرف كيف نجت من أمطار القنابل والصواريخ التي طحنت المدينة في حرب استعادتها من تنظيم داعش (2016-2017). ولا حتى كيف احتيت في مقبرة ذاكرتي،  مواقف ظننتها قد دُفنت وإلى الأبد. 

أشير بعصا مدرّس الجغرافية إلى خارطة إدارية كبيرة معلقة بالقرب من السبورة وأقول ملتقطاً الكلمات من ذاكرتي: “أنا من الموصل ثاني أكبر مدينة في العراق بعد العاصمة بغداد، تقع شمال غرب ويسكنها المسلمون والمسيحيون عرباً، كرداً، تركمان، وإيزيديون”.

يختفي صوتي، يختلط بزعيق المركبات الخارجة والداخلة لـجسر الحرية القريب من المدرسة. يبدو قريباً وفتياً، فقد أعيد للحياة مؤخراً بعد تركيب فضائه الشرقي الذي كانت عبوة داعشية قد شطبته، في محاولة لإعاقة تقدم القوات العراقية لاسترجاع نصف المدينة الآخر. 

بوابة الماضي تُفتح على وسعها. فوق هذا الجسر تحديداً، سار آخر ملوك العراق، فيصل الثاني، الذي افتتحه في نيسان 1958 وكانت تلك آخر زيارة له إلى الموصل، فقد قُتل مع أفراد عائلته في بغداد بعدها بثلاثة أشهر فقط وعبرَ الثوار من فوق جثثهم معلنين قلب نظام الحكم في العراق من ملكي إلى جمهوري.

وفي نيسان (أبريل) أيضاً، وعلى مدى عقدين متتاليين، سارت فوقه مواكب مهرجان الربيع، لتجوب المدينة الضاجة بالحياة. قلاعٌ آشورية، مساجد وكنائس، زهور بيبون (بابونج) وشقائق نعمان وحمائم عملاقة، نواعير وفرسانٌ بدروع وعضلات مفتولة.

المواكبُ تمرُ والمحتشدون على الجانبين يلوحون وفوقهم غمامة من بالونات الفرح، تبتعد بألوانها الربيعية شيئاً فشيئاً قبل أن تبتلعها زرقة السماء، وأنا المتسمّر على الرصيف أتابع المهرجان بدهشة المستكشفين رافعاً يدي بين الحين والآخر في تحية عسكرية كلما مرّت من أمام علم البلاد أو صورة القائد المفدى. 

بطريقة ما، لم تنطلِ عليّ خدعة أن المواكب تسير لوحدها. وكنت أعرف بأن هنالك مركباتٍ بداخلها، لكنني لم أتوصل أبداً إلى معرفة أماكن الثقوب السرية التي كان السائقون، يرون من خلالها الطريق أمامهم. 

في الجهة اليسرى، عند الطرف الآخر من الجسر، يقع متحف التاريخ الحضاري الذي افتتح سنة 1954 بقاعة واحدة، ثم أضيفت إليها ثلاثٌ أخريات في 1972. ضمت 112 قطعة أثرية كبيرة ومتوسطة الحجم مثلت مراحل مختلفة من تاريخ نينوى الضارب في القدم. 

الكثيرون لم يدركوا حينها، أن ما تهشم في ذلك المشهد الإستعراضي، مجرد مجسمات جبسية وقطع كبيرة صعُب نقلها، غطى بها التنظيم على سرقته الحقيقية. 

أبحث بلهفةٍ في أرشيفي الالكتروني، أجد صورةً لبناية المتحف وقد أنهكتها الحرب. هو ذات المكان الذي أظهر فيه مقطع فيديو نشر في شباط (فبراير) 2015 عناصر من داعش وهم يحطمون بغضب مفتعل، تماثيل قالوا بأنها أوثان.

الكثيرون لم يدركوا حينها، أن ما تهشم في ذلك المشهد الإستعراضي، مجرد مجسمات جبسية وقطع كبيرة صعُب نقلها، غطى بها التنظيم على سرقته الحقيقية. فالقابلة للنقل بيعت لسماسرة نقلوها إلى أوروبا وأمريكا. 

فقد شكلت تجارة الآثار المورد الثاني للتنظيم بعد النفط، الذي كانوا ينهبونه بانتظام من حقل نجمة والقيارة جنوبي الموصل وعين زالة غرباً ونقلته قوافل صهاريج شمالاً وشرقاً، قبل أن يصدر مجلس الأمن الدولي قراراً في 2015 بمنع الدول من شرائه.  

كيف نعيد تركيب الموصل من أربع صور؟

متحف الموصل. المصدر: صفحة باشطابيا على فيسبوك.

افتتح المتحف جزئياً في 30 كانون الثاني (يناير) 2019، بقاعة واحدة ضمت ضريحين منقوشة عليهما آيات قرآنية، على أمل قيام متخصصين مرتبطين بمتحف اللوفر في باريس بإعادة تشكيل القطع المهشمة التي ما تزال في مكانها. وأن تتولى منظمة أمريكية أعمال ترميم المبنى.

تشدني صورة ثالثة إلى كنيسة الساعة، إنها مقشرة الجدران وفجوات دائرية في الجهات الأربع لأعلى برجها، كانت تحتلها ساعةٌ رباعية أهدتها أوجيني زوجة الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث للآباء الدومينيكان  في تموز (يوليو) 1882 مكافأة لجهودهم التي بذلوها في تقديم العلاج وتوزيع الأدوية والأغذية لأهالي الموصل بعد أن فتك مرض التيفوئيد بالكثيرين منهم  بين عامي (1879- 1880).

لو أن المصور الذي التقط هذه الصورة وقف في ذات المكان قبل أربعة عشر سنة وثلاثة أشهر وأربعة أيام، لكانت عدسته، أظهرت جثة زميل الدراسة.

استمدت الكنيسة شهرتها من تلك الساعة وعرفت هي والمنطقة التي فيها باسمها طوال عقود. كان صوت دقاتها يصل إلى مسافة قطرها 15 كم ومعظم أهالي المدينة كانوا يضبطون ساعاتهم على وقتها.

أسكتها عناصر داعش وإلى الأبد في مطلع 2016. مثلما فعلوا مع أجراس الكنيسة، فضلاً عن سبعٍ وعشرين كنيسة أخرى موزعة في أنحاء متفرقة من مدينة الموصل. ودفعوا المسيحيين الذين كانوا يشكلون قبل عقود غالبية السكان، إلى الهجرة وسلبوا ممتلكاتهم كغنائم.

لو أن المصور الذي التقط هذه الصورة وقف في ذات المكان قبل أربعة عشر سنة وثلاثة أشهر وأربعة أيام، لكانت عدسته، أظهرت جثة زميل الدراسة الإعدادية محمد جابر، مسجاة على الرصيف، بثقبين واحد في الرأس والآخر ناحية القلب.

كان قد وضع في تلك السنة، نجمةً ثانية على كتفيه وصار نقيب شرطة، قتله عناصرٌ من تنظيم القاعدة في وضح النهار، بتهمة السير في الأرض فساداً والتعاون مع القوات الأمريكية المحتلة.

 بقي في مكانه ليومين كاملين، إذ كانت الفرق الصحية والقوات الأمنية العراقية تتجنب في تلك الأيام، رفع الجثث الملقاة على الأرصفة وفي الطرقات خوفاً من أن تكون كمائن مفخخة كما حدث في أنحاء متفرقة من المدينة، التي تحولت إلى ساحة حرب بين الجماعات المسلحة والقوات الأمنية، سقط فيها آلاف المدنيين منذ 2003 ولغاية منتصف 2017.

كيف نعيد تركيب الموصل من أربع صور؟

كنيسة الساعة. تصوير: علي البارودي.

بأي اتجاه كنتُ سأذهب، لو أني عدتُ إلى الوطن وأوصلتني جولة حنين راجلة إلى تقاطع الطريق الذي توجد عنده كنيسة الساعة؟ هل كنتُ لأجرؤ على مد رأسي والنظر يميناً ناحية جامع النوري أو ما تبقى منه.

 الصورة التي قذفت بي فجأة إلى المكان، موجعة جداً، فالمنارة التي ظلت قائمة في باحة الجامع لأكثر من ثمانية قرون، بميلانها الحاد نحو الشرق، حولها داعش في 21حزيران (يونيو) 2017  إلى غبار، ولا أثر لغير قاعدتها، فيما قبة واحدة فقط من بين قباب متعددة للجامع، ظلت قائمة كأنها تحاول استجلاء زمن ما بعد الخراب.  

هو ذات الجامع الذي ظهر فيه أبو بكر البغدادي في الخامس من تموز (يوليو) 2014 معلناً عن قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام. 

وفي وقتٍ انشغل فيه الناس في العراق وخارجه بساعة الرولكس التي كان يرتديها الخليفة المزعوم. وثار جدال شعبي محموم، لم كانت في يده اليسرى وليس اليمنى، كنتُ أفكر أنا حينها بأسباب ظهوره مكشوفاً بذلك النحو، متحديا طائرات الاستطلاع والأقمار الصناعية الأمريكية ورغبة معظم سكان كوكب الأرض في قتله. 

هل كانت تلك دعوة للسلفيين الذين يشترطون وجود خليفة وراية لكي يلتحقوا بالجهاد؟ وبالمحصلة خطة دولية محكمة، لإخراجهم من مخابئهم في مختلف أنحاء العالم وتمريرهم عبر ميزاب تركيا وجمعهم في الموصل ومن ثم محاصرتهم والانقضاض عليهم للتخلص منهم جميعاً؟

هل فعلوا ذلك حقاً؟ الصورة الرابعة التي أخذتني من يدي إلى الضفة اليسرى من نهر دجلة، تجيب عن ذلك، فمن هناك يتضح حجم الخراب الذي أحدثته محاصرة عناصر داعش خلال الحرب في المدينة القديمة. 

كُنا نطرق بكل ما أوتينا من براءة على علب الصفيح لكي نخيف الثور الشرير ونستعيد قمرنا مُكتملاً. 

أحد عشر ألف وحدة سكنية سويت بالأرض وتحولت إلى قبور لآلاف المدنيين. ومازال المئات منهم مفقودين بسبب اختلاط أشلائهم بالأنقاض. كان هذا ثمن التحرير الباهظ، دفعه المواطنون بسخاءٍ أملاً بسلامٍ حُلمي. 

سلامٍ كان قائماً، أيام كُنت أعتقد مثل الأطفال الذين بمثل عمري، أن الخسوف سببهُ وقوف القمر على قرن الثور. لذلك كُنا نطرق بكل ما أوتينا من براءة على علب الصفيح لكي نخيف الثور الشرير ونستعيد قمرنا مُكتملاً. 

هل أستطيع مسك القمر بيدي؟ هل تشتري الأمهات أطفالهن من السّوق؟ هل يشعر الموتى بالبرد في القبور؟

لكننا كبرنا بسرعة فائقة خلال الحرب التي اختزلت طفولتنا. فلم نعد نلعبُ كالصغار ولا نضحك مثلهم ولا نؤمن بالحكايات الليلية للجدات ولا نكمل تفاصيلها في أخيلتنا حين تلتقطنا أكف النوم. لم نكن نصدق ونحن أطفال كبار، سوى ما تعلن عنه لافتات الموت الموزعة بسخاء على الجدران في الطرقات، أو ما تقوله صفارات الإنذار.   

من مكاني هذا في الصورة على ضفة النهر، بوسعي الالتفات لأرى مدينة الألعاب العجوز الجاثمة على بعد أمتار، مازالت الطائرات الحربية والأحصنة والسيارات والبجعات الدوارة والإفعوانة المخيفة في الخدمة، لم تتقاعد. 

وذلك الطفل المحب لتسلق الأشياء مثل قرد صغير بداخلي، يغادرني، يركض صوب مدينة الألعاب، يقف هناك في طابور دولاب الهوى ممسكاً بيد خالي، ثم يجلسان متقابلين وبينهم مقود دائري، يداري خوفهُ من الارتفاع التدريجي بأسئلة لا إجابات عنها، هل أستطيع مسك القمر بيدي؟ هل تشتري الأمهات أطفالهن من السّوق؟ هل يشعر الموتى بالبرد في القبور؟

وحين يبلغُ مقعدهما الصندوقي أعلى نقطة، يواجهان بصمتٍ احتشاد منازل المدينة القديمة على التل في الضفة الأخرى وتبهرهما أضواءها المتراقصة على وجه النهر الذي يجري بوداعة حاملاً الأمل إلى أماكن بعيدة جداً عن خيال الطفل الذي كنتُه قبل أول صفارة إنذارٍ أعلنت حروبنا المتتالية.

 

كيف نعيد تركيب الموصل من أربع صور؟

ضفة نهر دجلة اليسرى- تقابلها المدينة القديمة.