fbpx
المقنين الجزائري. المصدر: Fawzi Feghoul. تحت رخصة المشاع الإبداعي

الأيام الأخيرة لعصفور جزائري

قد تسمع وأنت في الجزائر أنّ فلاناً قايض عصفور "مُقْنين" بسيارة قيمتها آلاف الدولارات.. لكن ما هو "المُقْنين" وما سبب هوس النّاس هناك به؟
ــــــــ الحيوان
15 يناير 2021

لم يكن الصوتُ القادم من الشقة المقابلة لشقتنا صوتاً معتاداً، بل صوتاً يفتقر له بيتنا. فرغم أن الشقتين صورتان طبق الأصل إلا أن الأخرى كانت مكاناً آمناً لعصفورين داخل قفص حديدي به مكان للماء وآخر للبرايقة، الأكل المخصص لهما، يرتفعان وينخفضان في تلك المساحة الصغيرة وكأنهما ريشة في الهواء. 

أراقب العصفورين كلما تفتح جارتنا باب الشقة للحديث مع والدتي. يبدوان تمثالين صغيرين للزينة، وما أن يبدآ بإصدار أصواتٍ حتى تتحول الصورة إلى مشهد غنائي متكامل.

سألت والدتي مراراً عن سبب خلوّ منزلنا من عصفورين مشابهين لكن الأمر لم يستهوها بالمرة. فبالإضافة للصوت المزعج – بالنسبة لها- الذي يصدرانه، يحتاجان إلى عناية وتنظيف مستمر، هي في غنى عنه وسط متاعب البيت ومتاعبنا نحن. 

هذا مشهدٌ تحفظه ذاكرتي منذ أزيد عن عشرين عاماً. 

تحت العمارة ساحة تتحوّل إلى معرض لعشرات الأقفاص، لعصافير أكثر تنوعاً، ألواناً وأشكالاً، في الغالب هي الكناري والمقنين وهو الاسم الجزائري لعصفور الحسّون. تجمعٌ تقليدي يقوم به أهالي الحي الذين يربونها في شققهم.

وعادة ما يفعلون ذلك في أجواء ربيعية مراقبين تحرّكات وزقزقات العصافير بدهشة وبهجة بالغتين، متجاذبين أطراف الحديث حول نوع “البرايقة” الأجود وأمكنة بيعها، وعن تلك الأمراض التي تصيب العصافير والمشاكل التي يعانون منها. كل هذه مشاهدٌ ألفتها المدينة وذاكرتِي أيضاً.

في مدينة  قسنطينة، عاصمة الشرق الجزائري، حيث تُشكل البنايات والتجمعات السكانية الجزء الأكبر من مساحة الضواحي في حين تكاد تختفي الحدائق والمساحات الخضراء، يهتم البعض من سُكان هذه الأحياء بتربية العصافير، حسب المساحاتِ المتوفرة في المنازل وحسب إمكاناتهم المادية، أو بتربية قطط “السيامو” الأكثر ألفة مع البيوت، وبصفةٍ أقل الكلاب، كلاب الحراسة غالباً.

“المقنين”.. الحسون الجزائري

لم تغب مشاهدُ الأقفاص والعصافير في الشوارعِ إلى اليوم. مازال الناسُ مهتمين بتربية العصافير وما زال العابرون في هذه المدينة يألفون مناظر الأقفاصِ جنباً إلى جنب على الأرصفة، أو معلقةً داخل شرفاتِ المنازل، تقليدٌ تتوارثه الأجيال بسلاسةٍ وفرحٍ.

يرتاد الهواةُ الأسواق الأسبوعية والمتاجر الخاصة بالعصافير، وقد ذكر تقرير في جريدة النصر اليومية نُشر قبل نحو عام، أن هناك تزايداً في نقاطِ بيعها وأن الأمر شجع المربين على استيراد وتهجين أنواع مختلفة وعلى ظهور أصناف جديدة.

كنت من بين هؤلاء الذين تثير فضولَهم قصةُ بيع الطيور وتربيتها. اقتربتُ من أحدِ متاجر بيع الحيوانات وسط المدينة، متجرٌ صغير يعلقُ صاحبه أقفاصَ عصافيرٍ مختلفة الألوان والأشكال، بالإضافةِ لحيواناتٍ أخرى كالسلاحف، أسماك الزينة والقطط.

هناك أصناف أصيلة و هجينة كما أخبرني، إذ يتم استقدام الأصيلة كالكناري والموزاييك من أوروبا، خاصة من إسبانيا وبلجيكا وفرنسا، ثم يقومُ مربو العصافير المحليون بتزويجها في أماكن خاصة، مستودعاتٍ مجهزة بالأكل والتدفئة والإضاءة المناسبة. وهناك أيضاً من يمارس هذا النشاط في شقتهِ للحصول على صنفٍ جديد

هذه الأنواع المهجّنة الجديدة أثرت على التوازن البيئي كما سببت في تهديد الحسّون الجزائري بالانقراض حسب نفس الصحيفة السابقة، بل إن تقارير إعلامية أخرى تعتبره بحكم المنقرض.

هنا أذكر دور “الجمعية الجزائرية لتربية الطيور” المعتمدة مؤقتاً من طرف “الاتحادية الدولية لعلم الطيور”، إذ تعمل على خلقِ بيئة مناسبة للطيور عن طريق زيارات ميدانية لتقييم الوضع، توفير الأغذية وتوعية الهواة، وأيضا حملات لإطلاق أصناف الطيور المهددة بالانقراض بالتعاون مع مديرية الغابات على مستوى الولايات.

يحصل  هذا بسبب زيادة عدد مربي الطيور ومحبّي شراء أنواع نادرة منها، وهو ما أدى إلى تراجع أعداد طائر التفاحي وطائر البسبوس وطائر الخضري وطائر الضالم، وجميعها قد يلقى مصير الحسون الجزائري قريباً بحسب تحذيرات الجمعية.

الأيام الأخيرة لعصفور جزائري

عصفور الخضري، البسبوس، التفاحي. المصادر: Sabine Heyer، fra298، Corine Bliek. تحت رخصة المشاع الإبداعي

ضربة وراء ضربة

يقول البائع في متجر الطيور الذي دخلته إن العصافير هي الأكثر طلباً من رواد المحلِ بالاضافة إلى أكلها الخاص وهو متباين الجودة والأسعار، موضحاً أن لكلِ عصفور حبوباً معينة يعرفها صاحبه ويشتريها دون عناء السؤال.

لم يكن البائعُ مجردَ تاجر يبحث عن المردود المادي، فهو ينتمي لعائلةٍ هي الأخرى شغوفةٍ بتربية الحيوانات توارثت المحل منذ خمسيناتِ القرن الماضي. ورغم التضييق الذي وقع على أصحاب المهنة عندما قررت الحكومة منع استيراد أطعمة الكلاب والقطط والأسماك في جويلية/يوليو 2015 لتوفر العملة الصعبة، من باب أنها مواد غير أساسية، لم يفكر الرجل في تغيير مهنته.

إلا أن الضربات تتوالى على المحل، فقد تأثر هو وباعة آخرين بتداعيات وباء كورونا على الأسواق الجزائرية، فتوقف استيراد العصافير وانخفض أيضاً الاهتمام بشرائها بحسب قوله، وهو يعيش اليوم من بيع أكل الحيوانات أكثر بكثير من اعتماده على بيع الحيوانات نفسها.

في المحلِ كانت أقفاص العصافير وأحواض الأسماك تملأ المكان، وكان خالياً من الزبائن طوال المدة التي قابلته فيها، إلى أن قدمت زبونة كانت تسأل عن اكسسوار وطعام للقطط.. 

الأيام الأخيرة لعصفور جزائري

أحد متاجر المدينة. تصوير: هاجر شويط

أسواق افتراضية

لا تعد المحال التجارية المقصد الوحيد لهواة تربية العصافير، ففي المدينة أسواقُ خاصة يجتمع فيها الباعة، الهواة والمربين على حدٍّ سواء. لقد تعذّر علي التوجه لسوقٍ أسبوعي مرة لأنه مخصص للرجال، وأخرى بسبب الوضع الوبائي الذي مُنِعت على إثره كل التجمعات بما فيها الأسواق. 

لذلك كانت مواقع التواصل الاجتماعي اختياراً أمثل لمعرفة المزيد عن العصافير وعوالمها. إذ شكلت مجموعات فيسبوك للهواة فضاء بديلاً يُعتمد عليه جميع الهواة والباعة مع الظرف الاستثنائي لفيروس كورونا الذي يمر به العالم وأيضاً بسبب الانشغال في الحياة، ضيق الوقت والمسافات الطوال التي قد يقضيها المهتم متنقلاً من مكانٍ لآخر بحثا عن سلالةٍ أو نوعٍ نادر. 

بمجرد الانتساب إلى إحدى المجموعات الشهيرة تظهر منشورات بالجملة، لقد بدا لي الأمر وكأنني فعلاً دخلتُ سوقاً يتأرجح فيها الزوار والباعة بين العرضِ والطلب. أنواعٌ كثيرة ومختلفة لعصافير لم أر مثلها من قبل ولم أتوقع تواجدها في المدينة، أحجام وأشكال مختلفة للأقفاص، أسئلة حول جهوزية العصفور للتزاوج، صور عصافير لمعرفةِ جنسها، أو يستفسر أصحابها عن دواءٍ لها في حال كانت مريضة.

يكون الاستفسار غالباً عن أسعار أزواجٍ مختلفة منها، وهذا ما عرفته، إذ أن البيع يتم بالزوجِ عادة لتسهيل عملية التكاثر والإنتاج. الكثير منهم من مدنٍ مجاورة لقسنطينة، عوض التنقل الدائم يفضلون الاستفسار أولاً ويتبادلون أرقام الهاتف قبلَ التبادل التجاري. وفي الأسواق، قد يصل سعر مقنين جزائري “نادر” إلى آلاف الدولارات، سعر سيارة مثلا.

فتحت حديثا مع “رائد” أحدِ أعضاء المجموعةِ والذي كان يبحث عن نوعٍ معينٍ من العصافير. يبدو “رائد”، ورغم صغرَ سنه إذ لا يتجاوز 23 عاماً مولعاً بعالم العصافير، يبحث ويتعلم ويُجربُ الحصولَ على أنواع جديدة، لقد كانت أولى تجاربهِ في تربية العصافير وهو بعمرِ 11 سنة ولم تنجح بعد أن التهم قطه العصفور. 

مع ذلك واصلَ طريقهُ بإحضار عصفورٍ جديد معتمداً على اليوتيوب للتعرف أكثر على هذا العالم: من التعامل مع الأنواع والأمراض، مدى الجهوزية للتزاوج، والأكل المناسب وحتى التطبيب، ومما زاد في معرفته وأكسبهُ خبراتٍ أوسع، تجمعات الهواة في الأماكن العامة، قائلا إنها عادة ما تكون داخل الأحياءِ، حيث يتم وضع الأقفاص في المساحات العشبية مما يسمح للعصافير بالتمتع بأشعة شمسٍ متوسطة وأخذ احتياجاتها من الضوء والهواء النقي. 

ليست وحدها العصافير من يستمتع بهذه الخروجات، خاصة أيامَ العطل الأسبوعية عوضاً عن مكوثها في البيت أو المستودعاتِ الخاصة، بل تسمح لأصحابها أيضاً بفتحِ مواضيع شتى حولَ المصاعب التي تواجههم خلال رعايتهم لها وطرح خبراتهم مع الأمراض والحساسيات، وأيضاً عرض تجاربٍ للتزاوج من شأنها زيادة الإنتاج وترقيته نوعاً وكماً. 

يقول رائد إنه عادةً ما يتحدث مع بقية المربين عن الأمراض التي تنتشر بشكلٍ واسعٍ بين العصافير والتي من الممكن معالجتها دون طبيب مختص، فالطبيب البيطري بالنسبة له هو “آخر الخيارات”.

ويضيف: “لقد تعرفتُ على هذه الأمراضِ، ومنها الكبد، العرق الأزرق، الفاش، العمى، الكوكسيديا، التهاب الأمعاء، كسر الأرجل أو الأجنحة، من طرف المربين الذين التقيهم في التجمعات، خاصة جانب المقبرة المركزية أو في حديقة بن ناصر، وأيضاً في الأسواق كسوق الخروب المقام يوم الجمعة الذي يعتبر أشهر أسواق العصافير في المدينة”.

ولأن رائد مهتم بالمتاجرة بالعصافير، فهو يملك أنواع مختلفة ورائجة في السوق، أهمها بالنسبة له هو طائر الموزاييك الأحمر والمعروف باللاتينية بـ  Agate Opel Mosaïque Rouge، الذي يبلغ سعره سبعة آلاف دينار جزائري (حوالي 50 دولار أمريكي).

الأيام الأخيرة لعصفور جزائري

تصوير: هاجر شويط

مُجرّد عصفور في قفص؟

يكتبُ صديقي عبد الفتاح منشورًا يعلنُ فيه عن موتِ أحدِ عصافيرهِ، عصفور التفاحي الذي ظل يلقّنه الغناء كالحسّون طيلة شهور. ما جعلني أفتح حديثاً معه حول هوايته في تربية العصافير.

يروي عبد الفتاح بمتعة خالصة رحلته في عالم الطيور منذ الصغر، حين كانَ يصطاد المقنين البرّي، متحسراً اليوم على اختفائه من الغابات بسبب قلة الوعي وانعدام الثقافة البيئية، إذ لم يبق منه سوى أعداد لا تستحق الذكر.

ليس وحدهُ عبد الفتاح الحزين على اختفاء العصفور الملك كما يسميه، فالكثير من هواة تربية العصافير القدامى يشاركونه الشعور بالمرارة، فهذا الطائر يملك مكانة خاصة عند جميع الجزائريين، حتى أن اسمه خٌلد في أغنية الراحل محمد الباجي، التي ألّفها عندما كان ينتظر حكم الإعدام في سجون الاستعمار، حيث شهد أيضاً إعدام زميل له بالمقصلة، وتقول الأغنية: “يا المقنين الزين، يا أصفر الجنحين، يا حمر الخدين، يا كحيل العينين، هذي مدّة وسنين وأنت قفص في حزين، تغني بصوت حنين، لا من يعرف غناك منين”. 

الأيام الأخيرة لعصفور جزائري

المقنين. المصدر: Imran Shah. تحت رخصة المشاع الإبداعي

يبدو عبد الفتاح من خلال الحديث الطويل الذي جمعني به غير راضٍ عما آلت إليه هذه الهواية في الجزائر، فقد ساهم الصيادون في دفع نوع إلى حافة الانقراض، ومازال خطر الانقراض يهدد أنواعٍ أخرى: البسبوس، التفاحي، الخضري، الحسون الضالم، التي يتخذونها بديلاً عنه.

وهو يدعو إلى ضرورة التزام أمن الغابات بواجبهم في نشرٍ الثقافة البيئية وحماية الأنواع عن طريق حملات توعية في وسائل الإعلام بل حتى في المدارس، فالأطفال والمراهقون يصطادون أيضاً الطيور للتسلية وأحياناً لكسب المال.

لا تتوقف تجربة عبد الفتاح عند تربية الطيور، بل هو باحث ومتتبع للحياة البرية للعصافير وأنماط حياتها، ولديه تجربة في تهجين العصافير البرية مع أنواع أخرى منتجاً طفرات جديدة، وهو ميدانٌ شغوف بالبحثِ فيه.

يوضح عبد الفتاح لي أن “العصافير البرية صعبة الترويض في القفص، وتحتاج إلى الخبرة والصبرِ والوقت”. ويتابع: “بعد ترويضها لسنة أو أكثر يمكن تهجينها منتجة عصافير قفصية لا تعرفُ شيئاً عن الحياة البرية.. هكذا تساهم في خلقِ سلالات قفصية جديدة ويطلق سراح البعضِ منها للمحافظة على التوازن البيئي”،

ويضيف أن موسم التزاوج القادم سيكون “أفشل موسم” نظراً لما خلفته وضعية انتشارِ الوباء، مانعةً استيراد أنواعٍ معينة مما أدى إلى غيابها عن السوقِ محدثة خسائر ثقيلة للتجار وحتى الهواة.

يذكرني كل هذا بذلك الفيديو الذي اشتهر منذ سنوات على شبكات التواصل الاجتماعي، لرجل أربعيني (اسمه حسان “الشون”) يُقلّد أمام ميكروفون القناة الرسمية أصوات الحسّون في الجزائر، ويُفرّق بين أنواعها النادرة التي تسكن غابات العاصمة الجزائر. يُصدر أصواتاً مثل “تيواواطي”، “تسبرلي تسبرلي”، “لاق لاق”، وسط دهشة الحضور وسخرية الكثيرين الذين حوّلوا الفيديو لمادة لصناعة الـ “ميمز”.

لكن عندما تسأله المذيعة عن سرّ معرفته الدقيقة بأصوات الحسّون، يجيبها: “كل طير يلغى بلغاه”، و”يُلاغي” في بعض لهجات الجزائر هي إصدار أصوات تقترب من الكلام.