fbpx
تصميم: خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

حكاية من السويس عن كلب وثعبان وإنسان

في حي جديد بمدينة السويس، يطارد الناس الكلاب، فتخرج لهم الثعابين، ويقتلون الغربان فتمتليء المدينة بالفئران..
ــــــــ الحيوان
7 ديسمبر 2020

في بدايات 2017 بدأت وزارة الإسكان المصرية متمثلة في مديرية الإسكان بمحافظة السويس (130 كيلو متر غرب القاهرة)  تسليم الوحدات السكنية الخاصة بأصحابها في مشروع “مدينة الملك عبد الله”. ومع قدوم الوافدين للمدينة كان الملمح الأول الذي لاحظه الجميع انتشار الكلاب بشوارعها.

مجموعات من الكلاب – عشرات قد تصل للمائة إجمالاً- نحيفة مسالمة، لا يتعدى خطرها مطاردة بعض السيارات بعد منتصف ليل الشتاء، كلاب متوسطة الحجم ضعيفة البنية تنحصر ألوانها بين الأبيض والأصفر ودرجاتهما.

هذه الكلاب -ربما لا تبدو كلمة “الضالة ” هي الأدق لوصفها- اشتهرت بكونها “الكلاب البلدية”، لا تنتمي لنوع بعينه، هجينة من أنواع عديدة، كما تتفرع أيضاً لأنواع أكثر عدداً، منها السلوقي، والأرمنت، والباسنجي، والفرعوني، أصلها مصري مع احتمالات التهجين العديدة منذ عصور سحيقة إلى الآن.

شكاوى يعقبها جثث

مع تزايد عدد السكان بالمدينة بدأت المناوشات بين الأطفال والكلاب، مطاردات بالحجارة أدت لإظهار الكلاب بعض الشراسة لمحاولة الدفاع عن أنفسهم، وبالرغم من عدم تسجيل حالة واحدة للهجوم الفعلي من الكلاب على البشر بالمدينة إلا أن الشكاوى من الكلاب تعددت للحي والمحافظة وإدارة الأسكان والطب البيطري، والتي تبعها عدة حملات عشوائية  لقتل وقنص وصيد الكلاب البلدية في جوف الليل، طلقات تسمعها تتخلل الحلم، وجثث تراها بالصباح تعترض طريقك.

خلفيات بيئية

مدينة الملك عبدالله – المكونة من 125 عمارة سكنية تحتوي الواحدة منها على 24 شقة بإجمالي ثلاثة آلاف وحدة سكنية – هي واحدة من أربع مدن أو مجمعات سكنية، كانت ضمن مخطط الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بتوفير مليون وحدة سكنية جديدة للمواطنين، مدينة المستشار عدلي منصور، ومدينة أحمد زويل، ومدينة خليفة بن زايد، ومدينة الملك عبدالله.

تبعاً لتصنيف تلك المجمعات السكنية كمدن للإسكان الإجتماعي، فإن معظم قاطنيها من متوسطي الدخل من الموظفين والعاملين بالشركات المختلفة بمدينة السويس، تتبع هذه المدن جميعها إدارياً لحي عتاقة، وهو واحد من خمسة أحياء تتقسم إليها المحافظة بأكملها، السويس، والأربعين، وفيصل، والجناين، وعتاقة.

أدى الإختلاف بين هذه الأحياء الخمسة في التكوين الجغرافي والديموغرافي لإختلاف أنواع الكائنات الحية الموجودة فيها، فطبيعة حي الجناين الزراعية تبعها وجود أعداد من الماشية وطيور المزرعة، أما حي السويس ولإطلاله المباشر على قناة السويس عبر منطقة بورتوفيق فتنشط به الحياة البحرية للكائنات بمختلف أنواعها بالإضافة لطائر الغراب مع أعداد ليست بالقليلة من قطط وكلاب الشوارع.

سقف شديد الوطأة

كشأن القط كان الكلب المصري أيضاً مقدساً عند الفراعنة مثلما تخبرنا التماثيل الفرعونية للكلاب، أو النقوش التي تصورها كحارسة للمعابد أو كأبطال في معارك الصيد أو في حالة “أنوبيس” أو “المُحنط” والذي قام بتحنيط الإله أوزوريس والذي تزعم إحدى الأساطير أن أوزوريس هو أبوه الفعلي.

لكن هذا لم يكن شأن حالة  الكلاب التي نحكي عنها، فعلى الرغم من كون هذه الفصائل تتميز بالقدرة على تحمل الظروف المناخية الصعبة، إلا أن سقف الصعوبة الذي يتحملوه في مدينة الملك عبدالله بدأ يزداد وطأة.

بدأت أعدادهم في الانحسار، والنحافة أصبحت هزالاً، إلى أن اكتملت الطامة بقدوم الجائحة العالمية كوفيد 19، وبالرغم أن منظمة الصحة العالمية لم تشر في أي من بياناتها بشكل قاطع لإمكانية انتقال الفيروس من حيوانات الشوارع كالكلاب والقطط للبشر أو حتى مجرد إصابتها به إلا أن الخوف منها أدى إلى معاداتها أكثر.

مع تطبيق حظر التجوال للحد من انتشار الوباء، تغيرت العادات الغذائية في المنطقة نسبياً، من ناحية ارتفع معدل الاعتماد على الطعام السريع وخدمات توصيل الطعام، ومن ناحية أخرى تشتد وطأة الأزمات الاقتصادية المتتالية من قبل الوباء، الأمر الذي أدى إلى نقص محتوى القمامة من الطعام الذي تتناوله مثل تلك الحيوانات.

خلل

بالتزامن مع النقص الكبير في أعداد الكلاب وقلة حركة ومرض العدد القليل المتبقي منها، بدأ الثعبان في الظهور، ثلاث حوادث – وإن كانت الأحاديث المتواترة بين سكان المدينة ترجح عدداً أكبر من ذلك- متفرقة بين كل واحدة عدد من الأشهر لظهور الثعابين بمنطقة سكنية أدى لفزع عدد غير قليل من قاطني المنطقة، في المرة الأولى تحركت الجهات المعنية وبالفعل تم حصر مكان الثعبان وقتله وتطهير المنطقة، في المرتين الثانية والثالثة قام السكان بقتل الثعابين بأنفسهم. 

في السادس عشر من يوليو 2018 نشرت صفحة مدينة الملك عبدالله بمشروع الإسكان الاجتماعي بالسويس على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” شكراً لمديرية الصحة بالمحافظة على سرعة التحرك واحتواء الموقف بعد قتل الثعبان الأول ورش وتطهير المنطقة.

لكن في العشرين من يوليو 2019 نشر أحد أعضاء الصفحة المنشور التالي.. “أثناء مروري أنا وأولادي الصغار وجار لينا بالمدينة وجدنا ثعبان طوله حوالي 150 سم وكان قريب منا جدا لولا جاري اخد باله كان ممكن يقرص حد مننا، تعديل : تم قتل الثعبان بواسطة أبو خالد جارنا وبعض سكان المدينة “. 
وبينما كان تعليق عضو آخر بضرورة عدم نشر مثل تلك الأخبار التي تبث الخوف في قلوب المواطنين، فكان تعليق عضوة بالصفحة “أن هذا الثعبان المقتول هو الثالث في ظرف أسبوعين”.

وأخيراً بتاريخ الأول من مايو للعام الجاري 2020 نشر عضو آخر ما يفيد أن أطفاله قد رأوا ثعباناً صغيراً بين العمارات وظن في البداية أنه خيال أطفال حتى أكد له أحد الجيران أنه رأى ثعباناً صغيراً بالفعل ولم يتمكن من قتله. ليأتي تعليق آخر.. “سيبوا الكلاب في حالها، وياريت تحطوا ليهم أكل”.

خلفيات تاريخية

لم تكن تلك المرة الأولى بمحافظة السويس التي يتسبب فيها القتل العمد المباشر لنوع محدد من الكائنات في اختلال للتوازن البيئي يتسبب بدوره في مخاطر أفدح، ففي تسعينيات القرن الماضي شنت المحافظة، عبر مديرية الطب البيطري وباقي أجهزتها التنفيذية حملة شعواء ضد طائر الغراب والذي يتواجد بها بأعداد كثيفة تكاد معه أن تصبح صاحبة أكبر نسبة في تواجده على مستوى القطر المصري.

بدأت الحملة ساعتها بطلب المساعدة من فريق المنتخب المصري للرماية، ثم تطور الأمر للتوسط عبر القنصلية السعودية لبعض أفراد عائلة بن لادن أثناء وجودهم في رحلة سياحية بالمحافظة وهم المعروف عنهم ولعهم الاستثنائي بصيد الطيور والذي سُمّي وقتها ب “حملة بن لادن “.

 اتخذ الأمر انعطافًا جديدًا قبل خمس سنوات مع مرحلة المكافآت المادية المباشرة، مثل حركة “الغراب بجنيه” عن طريق مجموعات شبابية متنقلة تعرّف المواطنين بأغراض الحركة وتجمع منهم الجثث وتسلمهم الجنيهات الموعودة.

بدأ الأمر كله ساعتها عن طريق بعض البلاغات عن إزعاج الطيور أو عدوانيتها -التي ثبت علمياً أنها لاتأتي أبداً في موقف الهجوم ولكن رد الهجوم أو الدفاع عن النفس- وانتهى بتقليص عدد الطيور بالمحافظة إلى النصف تقريباً، مما أدى للظهور الكبير للفئران بشوارع المحافظة والذي أدى استحالة السيطرة عليه إلى استيراد أنواع معينة من طائر البوم بأعداد كبيرة وإطلاقها في سماء المحافظة، أملاً في القضاء على مشكلة الفئران بكل ما يترتب عليها من مشكلات صحية وبيئية و وبائية، ما تزال قائمة حتى يومنا هذا.

سلسلة مترابطة

“الكلاب المنتشرة بالشوارع مسالمة بطبيعتها تجاه الإنسان، حتى لو طاردت العربات المسرعة مطلقة نباحها المخيف فهذا الفعل بمثابة إعلان عن الوجود ليس إلا” هذا ما يؤكده يحيى عاطف الطبيب البيطري، الذي تابع.. “لكن تغير الظروف المناخية والبيئية وتعرضها للعنف وبعض الأمراض قد يؤثر على طبيعتها ويجعلها أكثر عدوانية”.

من ناحية أخرى يرى عاطف أن ظهور الثعابين بمنطقة سكنية أمر غير معتاد ويحدث بشكل نادر بمعدل مرة واحدة كل عدة سنوات، ونقص عدد الكلاب المعتاد وجوده بمنطقة ما قد لا يكون سبباً مباشرة لظهور الثعابين، حيث أن الكائنين لا يمثل كل منهما عدواً بيولوجياً للآخر.

لكن عندما ننظر إلى المشهد على اتساعه نجد أن قلة عدد الكلاب قد يؤدي بشكل مباشر لانتشار القطط والفئران وهنا تكمن المشكلة، حيث أن هذه الكائنات تتغذى بشكل رئيسي على الحشرات والأبراص التي تعتبر الغذاء الأساسي لنوعيات الثعابين التي ظهرت والتي تسمى “أبو السيور“.

“أبو السيور” بحسب  الدكتور يحيى عاطف يتواجد بالسهول والوديان والمناطق الزراعية، يتراوح طوله بين المتر والمتر ونصف، وتنحصر ألوانه بين الأصفر والأخضر ليتناسب مع البيئات التي يتواجد بها، كما أنه شبه منعدم الخطورة على البالغين لضعف سُمّيته، حيث يفرز سماً ضعيفاً من أنيابه الخلفية يكفي بالكاد لقتل فريسته، وخطره على الأطفال من متوسط إلى قليل، وتنحصر مشكلته الأساسية في الفزع الذي يسببه، فهو في النهاية -وإن كان سمّه ضعيفاً- ثعباناً.

المدينة لمن..؟

لاحظ عماد منذ قدومه المسالمة الشديدة لكلاب الشارع، وعدم بدأهم أبداً بالاعتداء كما رآهم من شرفته عدة مرات يطاردون سيارات غريبة عن المكان وهو ما دفعه للإعتقاد بأهمية وجودهم كحماية للمدينة البعيدة عن أقرب نقطة للشرطة أو حتى لأي تواجد أمني بعدد كبير من الكيلومترات

عماد (33 عام) والذي يعمل بشركة اتصالات، له نظرية خاصة عن تنظيم وجودهم بدلاً من التخلص منهم والذي لا يجد له أي معنى، أن يتم تخصيص منطقة للكلاب في الصحراء التي تحاوط المدينة، وأن يقوم السكان بتقسيم قمامتهم قبل رميها، كيس لبواقي الطعام وكيس آخر لباقي المخلفات، وأن يقوم أطفال المدينة وكبارها الذهاب للكلاب في تلك المنطقة المخصصة لهم، وتقديم الطعام لهم بأنفسهم، بذلك يتعرف الكلاب عليهم ولا يقوموا بأذيتهم تحت أي ظرف.

أحمد الشريف ( 42 عام) يعمل ملاحظ ورديات بشركة بترول يرى أن المدينة لسكانها وليست للكلاب وأن للمحافظة الحق في قتلهم جميعاً لأن وجودهم بعدد كبير يهدد حركة الأطفال بحرية في الشوارع ويسبب الخوف حتى لبعض الكبار الذين لديهم فوبيا من الكلاب.

الفوبيا.. والتناغم

وعن فوبيا الكلاب يخبرنا الاستشاري النفسي مدحت الطويل أنها منتشرة للغاية في مصر بسبب انتشار الكلاب كأحد الحيوانات الرئيسية في شوارع مصر بشكل عام، ولكن بالرغم من انتشارها فإن نسبة قليلة من المصابين بها هم من يسعون للرغبة في العلاج منها أو لمناقشتها مع متخصص.

 حسب الطويل فإن أعراض هذه الفوبيا أو الرهاب تتمثل في نوبة ذعر تتفاوت شدّتها من مجرد القلق والإحساس بالدوار، وصولاً للتعرق الشديد، وسرعة نبضات القلب، والانطلاق في الجري والذي بالطبع يحفز الكلاب للمطاردة مما يزيد الأمر سوءاً. والعلاج تبعاً لرأي مدحت الطويل لا يحتاج في الغالب للتدخل الدوائي، لكنه يأتي عبر التدريب السلوكي والذي يتضمن الاعتراف الكامل من المصاب بالرهاب يتبعه تعامل بسيط متدرج مع أحد أفراد الفصيلة الكلبية، تدريجياً حتى يحدث التناغم المطلوب.

تبدو كلمة “التناغم” التي قالها الطبيب بعيدة المنال، مع تاريخ مسئولي المدينة -وأحيانا سكانها- في اللعب بالتوازن البيئي للمكان، اتخاذ قرار متسرع لا يمضي دون نتيجة، غالبا لا يدفعها صاحب القرار، لكن العديد من الكائنات، وعلى رأسها الإنسان.