حين تسلك الطريق الواصل بين بلدة باتبو وجبال كللي شمالي سوريا، قد لا يخطر ببالك أنّه كان يومًا ما مصدر رعب لسكان المنطقة. الرعب نفسه ما زال حاضرًا في ذاكرة من عبروا ذلك الطريق الذي كان يُعرف قبل الحرب باسم وادي الضباع، لكثرة ما نسجت حوله حكايات جعلته موحشًا في أذهان من عاشوا قربه.
نساء القرى المجاورة لوادي الضباع كنّ يقصدنه لقطاف الحميضة ونبتة الخبيزة البرية للطهي، أو لجني الأعشاب الطبيعية التي كانت تنمو فيه. ولأن المكان كان يبعث الخوف بسبب انتشار الضباع فيه، اعتاد الرجال على مرافقة نسائهم في هذه الرحلة المشروطة بعدم شرود أي شخص عن المجموعة، وإلا سيقع فريسة سهلة لهذه الضباع البارعة بالتخفي.
في مرتفعات الشمال السوري، رُصدت الضباع مع بداية النزوح، منها جبال كللي، وكفردريان، وسرمدا، ودارة عزة، وتلعادة، وحارم، والكثير من الأحراش المتصلة بالجبال التركية
يمتدّ وادي الضباع من قرية الحلزون غربي بلدة باتبو، ويمرّ بوادي عبيد إلى وادي يوسف في بلدة كللي، ويرتبط بسلسلة مرتفعات تمتدّ حتى الحدود التركية. في الشمال السوري، ثمة مرتفعات في مناطق متفرقة رصدت فيها الضباع مع بداية النزوح، منها جبال كللي، وكفردريان، وسرمدا، ودارة عزة، وتلعادة، وحارم، والكثير من الأحراش المتصلة مع جبال تركيا. هناك، تكثر غابات الصنوبر والبلوط في جبال اللاذقية وما يحيط بها من سهول وأودية، وقد وجدت الضباع فيها بيئة مثالية لبناء أوكارها، حيث يتوفر الغذاء بعيدًا عن مخاطر الصيد والقتل على أيدي البشر.
هكذا كان الحال قبل 14 عامًا، أي قبل تهجير نظام الأسد المخلوع لملايين السكان الذين أجبروا على النزوح شمالًا باتجاه القرى الحدودية والجبال المحيطة، فتوسّع العمران وافترشت خيامُ النازحين المنطقة، وتحول وادي الضباع من موطن لأحد أكثر حيوانات المكان غموضًا إلى مأوى للمهجرين الهاربين من ويلات الحرب. أما اليوم، ورغم محاولات صيادي الضباع العثور على أوكارها، فإنهم غالبًا ما يجدونها مهجورة وفارغة، بحسب صيادين التقيناهم.
حين فقدت الضباع عزلتها
لم يعد لوادي الضباع صوته الليلي المعتاد بعد امتداد البشر إليه، اختفى العواء الذي كان يعمّ الأرجاء، بحسب ما ينقل أهالي القرى المحيطة بالوادي. تُركت الضباع لمواجهة مصير مجهول، للبحث عن ملاذ آمن لها ولجرائها، كما أجبرت على الهجرة إلى مناطق أكثر عزلة.
لطالما كانت الوديان والجبال الوعرة ملاذًا طبيعيًّا للضباع المخطّطة التي اتخذت من الكهوف والأوكار بيوتًا آمنة، تختارها بعناية بين الصخور بعيدًا عن الأعين. لكن ما لم تدركه هذه الحيوانات أنّ الحرب ستطيح بهذه العزلة أيضًا لتجبرها على التكيف مع واقع أكثر قسوة.
مع تصاعد النزاع، وجد الناس أنفسهم مضطرين للبقاء في خيام وأبنية مؤقتة داخل تلك المناطق، فتداخلت حياة الإنسان مع البرية، وتحولت الضباع من مفترس حذر إلى ضحية مشردة فقدت مأواها لصالح النازحين. ومع تناقص الغذاء في البرية، بدأت الضباع تقترب أكثر من المخيمات، تبحث في مكبات النفايات أو تهاجم المواشي، بينما كان الخوف منها يتعاظم في أوساط النازحين الذين غاب عن أذهانهم أن الضباع مثلهم تمامًا، ضحية للحرب والدمار أيضًا. تهجير الضباع قسريًّا من موطنها لم يكن الخطر الوحيد الذي واجهته، فطبيعة الحرب التي فرضت غياب عمليات دفن الجثث بسبب القتال وخاصة على خطوط الجبهات، جعلت جثث الضحايا طُعمًا يجذب الضباع الجائعة، مما أدى إلى استهدافها بشكل مباشر من قبل السكان، الذين اعتبروها كائنات خطيرة تهدد التجمعات السكنية.
يؤكّد أحد الصيادين من قرية كفردريان غربي مدينة سرمدا، أنّ الضباع لم تعد بنفس الحذر الذي كانت عليه، فالبعض بدأ يهاجم المواشي، وإن تطلّب ذلك اقترابها من المخيمات بحثًا عن الطعام. وعلى مدى السنوات السابقة تكرّر تداول محادثات وتحذيرات من أهالٍ عبر مجموعات تطبيق واتس آب حول رصدهم ضباعًا تتجول ليلًا بالقرب من خيام النازحين، وأهم المؤشرات على ذلك تكون الأصوات الغريبة التي تصدرها. هذا السلوك غير المعتاد جعلها هدفًا للصيد والقتل، خاصةً مع انتشار الأسلحة بين السكان. شهد المكان على تصادمٍ غير مرئي دائمًا بين مساكن الناس والضباع، وفق ما يخبرنا أبو إسماعيل أحد سكان مخيّم “خير الشام” الواقع في وادي الضباع بالقرب من بلدة كللي: “قيل لنا بداية النزوح إن علينا توخي الحذر وخاصة في الليل، خوفًا من أن يقع أحد أبناء المخيم وخاصة الأطفال فريسة للضباع هنا، فالجبال المحيطة مليئة بالأوكار والضباع تتجول مع غياب الشمس“.
طقوس جماعية للتفاخر
“هذا عدوك يا بني آدم” جملة شعبية سمعها الحاج أبو محمد من صائدي ضباع يكبرونه عمرًا. يروي لنا الرجل الستيني من بلدة باتبو، تفاصيل إحدى رحلات الصيد التي كان حاضرًا عند التجهيز لها قبل أكثر من ثلاثين عامًا، حين اتفق مجموعة من الرجال على صيد ضبع يتخذ من “مغارة الخراب” المعروفة أيضًا باسم “وكر الضبع” في بلدة باتبو مأوىً له. كانت خطتهم أن يشعلوا نيرانًا تبعد قليلًا عن الوكر، واصطحبوا معهم طبلًا لإقامة حفلة غنائية لكي يُشعِروا الضبع بالاطمئنان، ثم اتجه اثنان من أفراد المجموعة نحو الوكر مصطحبين حبلًا طويلًا لربط أطرافه وعصًا خشبية كبيرة للدفاع عن النفس في حال شعر الضبع بوجودهم وهاجمهم خارج الوكر.
استطاع الرجلان فعلًا دخول الوكر وربط الضبع، لكن الأصوات الغريبة والمخيفة التي أصدرها حينها جعلت المحتفلين يظنون أنه استطاع القضاء عليهما، ما دفع شقيق أحدهما للإسراع إلى المغارة وضرب الضبع بالعصا على رأسه بقوة حين رآه ولم يرَ الرجلين الذين كانا داخل الوكر يحاولان دفعه للخارج بقوة بينما كان يحاول مقاومتهما. قُتِل الضبع يومها ولم تستطع المجموعة الاستفادة من ثمنه كما كانوا يخططون.
يستخدم الصيادون أدوات تقليدية للصيد، مثل الفخاخ (الخشبية أو الحديدية)، والطعوم المسمومة، والأشرطة اللاصقة للصق الأطراف بها، أو يعتمدون على الكلاب المدربة لمطاردة الضباع حتى الإنهاك قبل البدء باصطيادها. كذلك يستعينون بالأسلاك المعدنية التي تعمل على خنق الضبع عند وقوعه في الفخ.
في ظل الظروف القاسية التي فرضتها الحرب، تزايدت أسباب صيد الضباع. فبالإضافة إلى الخرافات، يرى البعض أن قتلها ضروري لحماية المواشي، بينما يعتبرها آخرون مصدرًا للدخل من خلال بيع فرائها أو عظامها، كذلك من خلال التنقل بها بين القرى وعرضها داخل أقفاص مقابل أجور مالية.
يستخدم الصيادون أدوات تقليدية مثل الفخاخ (الخشبية أو الحديدية)، والطعوم المسمومة، والأشرطة اللاصقة للصق الأطراف بها، أو يعتمدون على الكلاب المدربة لمطاردة الضباع حتى الإنهاك
صيد الضباع ليس مجرّد هواية، بل إنّه تقليد متوارث في بعض العائلات الريفية، كونها أكثر عرضةً لهجوم الضباع الباحثة عن الطعام، وقد اشتهرت عائلات دون غيرها بصيد الضباع. بعض الصيادين يخوضون مغامرات محفوفة بالمخاطر، يراهنون على شجاعتهم في مواجهة هذا المخلوق الذي يحمله البعض مسؤولية اختفاء المواشي أو حتى اختفاء البشر في ظروف غامضة.
وفي بعض الأحيان يتحول الصيد إلى طقس اجتماعي، يتفاخر فيه الصيادون بمهاراتهم أمام الآخرين، متجاهلين الدور البيئي المهم الذي تلعبه الضباع في تنظيف الطبيعة من الجيف. كما أنّ هناك من يسعى إلى أكل لحم الضبع، وفق ما أخبرنا بعض الصيادين، خصوصًا أنّهم سمعوا من كبار السن أن لحم الضبع مباح وله فوائد مختلفة، ورغم جهلهم بمنافعه إلا أنهم يؤمنون أن هذ اللحم قد يمدّ آكله بالطاقة أو قد يساهم بشفاء بعض الأمراض.
مائدة وغرفة نوم
يربي سليمان وهو صائد حيوانات من بلدة كفرومة جنوبي إدلب، مجموعة من كلاب الصيد المدرّبة بجانب خيمته في مخيم التعاون قرب بلدة كللي. فهو يهوى صيد الحيوانات بكل أنواعها مثل الأفاعي، النيص، القنفذ، الأرانب، الثعالب، الذئاب، وغيرها.. وعلى الرغم من محاولاته المتكرّرة، خلال السنوات الفائتة للإمساك ولو بضبع واحد إلا أنه لم يحظَ باستضافة أي ضبع. يخبرنا الشاب: “كلما ذُكر لي رصْدُ أحد ما لوجود ضبع في وكره، أتجه لمكان الوكر رفقة شاب آخر مصطحبًا كلاب ومعدات الصيد وأهمها “البلام” الذي صنعته من الجلد لتقييد فكي الضبع عند العثور عليه، وفي كل مرة أجد أن الضبع هجر الوكر حديثًا”. هذا ما حدث منذ فترة عندما أبلغه صديقه بعثوره على وكر للضباع بالقرب من بلدة محمبل غربي إدلب. وضّب سليمان معدّات الصيد وتوجّه إلى المكان فوجد أن الضبع قد غادره. هناك مؤشرات عدّة أكّدت له أن مغادرة الضبع كانت فور رصد صديقه للوكر ومحاولة إغلاق فوهته ريثما يذهب لإبلاغ سليمان وإحضاره، من هذه المؤشرات رائحة بول الضبع التي كانت نافذة في المكان لدى وصوله، إضافة لوجود جيفة كلب اصطادها في وقت حديث ويبدو أنه أكل جزءًا بسيطًا منها قبل الهرب. ولأنّ الضبع حيوان ذكي “ليس صيده بالأمر السهل، لامتلاكه حاسة شم قوية وقدرة على التخفي” يشرح سليمان مفسرًا هجرة الضبع السريعة من الوكر عند شعوره أن أحدًا اكتشف مكانه.
في طريقه إلى الوكر، تستقبل صائد الضباع علامات تميّز الضبع عن غيره من الحيوانات المفترسة الأخرى، ففي الخارج يكون “المضوى” وهو المكان الذي يجلس فيه الضبع بعد فراغه من أكل صيده منتظرًا حلول الفجر ليدخل إلى وكره كي يبيت فيه حتى المساء، هذا المضوى يكون نهاية المَدرَب (طريق مشي الضبع خارج الوكر، وتكون فيه آثار أقدامه ظاهرة خاصة في الشتاء).
أما فوهة الوكر فيشبّهها سليمان بفتحة التنور الذي يستعمل لصناعة الخبز، وهي المدخل إلى الوكر. إلى الداخل قليلًا يكون “المطعم” وهو مكان خاص بجمع صيد الضبع من جيف وعظام وفضلات طعامه، وعادة ما تكون رائحة هذه البقعة كريهة جدًّا وفق سليمان الذي يؤكّد أنّ “الضبع حيوان نظيف” رغم ذلك، كونه يفصل مكان الطعام عن مكان استراحته الذي يكون إلى الداخل قليلًا، ويكون نظيفًا على عكس المطعم.
تختار الضباع أوكارها بعناية، في أماكن يصعب الوصول إليها، حيث تجد الأمان لصغارها. تتميز هذه الأوكار بأنها عميقة، ذات مداخل ضيقة تحميها من أي تهديد خارجي. لكنها اليوم، لم تعد مأوىً آمنًا كما كانت، فقد أصبحت هدفًا للصيادين ولبعض النازحين الذين يرون في وجودها خطرًا يجب التخلص منه، ومكسبًا ماديًّا يمكن الاستفادة من ثمنه.
حارس الطبيعة مهدّد
هناك نوع وحيد من الضباع يتواجد في سوريا، وهو “الضبع السوري المخطّط” ((Hyaena Hyaena Syriaca الذي يعيش في منطقة بلاد الشام، في سوريا ولبنان وفلسطين، بالإضافة إلى العراق وشمالي شبه الجزيرة العربية، كما يعيش في تركيا ضمن ممرّ يمتدّ من جنوب شرق الأناضول إلى منطقة شمال بحر إيجة، بحسب زاهر هاشم، الصحفي المتخصص في قضايا البيئة.
تتوزّع الضباع المخطّطة، وتتأقلم بالعيش في كافة البيئات مثل البادية، والمرتفعات الجبلية الساحلية والداخلية، والسهول، ويمكن أن تتواجد بالقرب من المزارع وعلى أطراف المدن والمناطق الحضرية. إلّا أنّ أعدادها تتناقص بشكل عام في جميع أماكن تواجدها ليس في سوريا فحسب بل في لبنان وفلسطين أيضًا وغالبًا بسبب المعتقدات الشائعة عنها، والتي تدفع الناس إلى اصطيادها بهدف التخلّص منها. يخبرنا هاشم بأنّ “أعداد الضباع المخطّطة حول العالم تقدّر بين 5 آلاف إلى 14 ألف حيوان، وتستمر أعداده بالانخفاض، ومن غير المتوقع أن تزيد أعداده في سوريا عن العشرات”. هذه الأعداد المحدودة المتبقية من الضباع، دفعت “الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة” إلى إصدار بيان عام 2015، يدعو فيه إلى الامتناع عن صيدها لأنّها “قريبة من التهديد بالانقراض“، والفصائل التي تندرج ضمن هذا التصنيف عادة تكون أعدادها أقلّ من 10 آلاف.
ويؤثّر في ذلك أيضًا تغيّر المناخ الذي يُحدث تأثيرات جذرية على موائل الحيوانات والكائنات الحية بشكل العام. فمع ارتفاع درجات الحرارة تجبر العديد من الأنواع على الهجرة نحو مناطق أكر برودة، غالبًا تكون في المرتفعات والجبال. لكن قد لا تستطيع جميع الأنواع التحرك أو التأقلم في البيئات الجديدة بالسرعة الكافية، مما يؤدي إلى يساهم في تراجع أعدادها أو انقراضها.
ثمّة شح في الدراسات التي تتقفّى تواجد الضباع في سوريا، والمعلومات المتوفرة لا تتعدى التقارير والتحقيقات الصحفية، وبعض الدراسات القديمة تتناول وجودها في المنطقة لا في سوريا تحديدًا. يلفت هاشم إلى أنّ الظروف الأمنية وظروف الحرب شكّلت عائقًا أمام الدراسات الميدانية، إضافة إلى أن أبحاث الطبيعة ودراسات سلوك الحيوان عادةً ما تكون مكلفة وتحتاج إلى التمويل والدعم من منظمات وجهات بحثية دولية. غير أنّ هناك اتجاهات لدراسة تأثير الحرب على الحياة البرية في سوريا، وفق ما يؤكّد هاشم، بالإضافة إلى المخاطر التي تواجه الموائل الطبيعية للكائنات الحية نتيجة تأثيرات الحرب التي تتمثل بتلوث المياه والتربة وتدمير الغابات والصيد الجائر بسبب الظروف الاقتصادية المتدهورة التي خلفتها الحرب.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
“ساحر” و”مهرِّب”
“بإمكان الضبع أن يَضبع فريسته” يقول العم أبو محمد الذي عدّد لنا بعض تصوّرات الأهالي عن هذه الكائنات، وأكثرها انتشارًا هو “بول الضبع” الذي يستخدمه الضبع عندما ينفرد بفريسته. يبدأ الضبع بالدوران حول فريسته مصدرًا صوته الغريب الذي يشبه الضحك (توصف بالضحكات الشيطانية)، ثم يبدأ بالتبول على ذيله ويرش هذا البول على الفريسة مما يدخلها في حالة أشبه بالتنويم المغناطيسي. يسير الضبع بعدها أمام فريسته التي يستدرجها إلى وكره دون أي إدراك منها.
إنّها واحدة من حكايات كثيرة يتناقلها الناس عن كائن يعيش معهم في المنطقة نفسها لكنهم قلّما يرونه، ولكثرة تداول روايات البطولة التي يتفاخر بها رجال الأرياف، تحوّلت هذه القصص إلى حقائق متّفق عليها بين السكان.
كلّ عضو من أعضاء الضباع، له نصيب من معتقدات أهالي المنطقة، كأنّ هذه الأقاويل والمرويات هي ما صنعت علاقتهم مع هذه الكائنات المتوارية. هكذا يؤمنون أنّ عظام الضباع تحمل قوة سحرية تُستخدم في السحر والشعوذة، كذلك دماغه الذي يمدّ آكله بطاقات غريبة تجعله أكثر قوة وذكاءً من غيره. هذه المعتقدات زادت من مطاردة الضباع، وجعلت قتلها أمرًا مبررًا لدى كثيرين، رغم أن العلم ينفي هذه الادعاءات، مؤكدًا أن الضبع كائن خجول بطبيعته، ولا يهاجم إلا عند الضرورة.
أما جلد الضبع فيقال إنه هدف مهرّبي المخدرات والممنوعات، لأن له خصائص تجعل أجهزة الفحص عاجزة عن اكتشاف ما يهرّب داخله من مواد غير مشروعة، لذا فإن دفن الضبع يحتاج لمحضر شرطة وإجراءات قانونية موثّقة بحسب من قابلناهم من آل بيور. يروي لنا سليمان قصة دفن لأنثى ضبع قتلت على يد حرس داخل معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية. جاءت أنثى الضبع هذه بحثًا عن الطعام، وبعد عدة محاولات لإبعادها عن مكان رمي بقايا طعام الموظفين، كانت تبتعد قليلًا ثم تعود، ما أجبرهم على قتلها خوفًا من مهاجمتها لهم، ثم صوروها وأخذوا أوامر بدفنها. هذه التفاصيل علمها من أحد أصدقائه الذين ساهموا بالدفن حينها.
أدوات لتحديد المكان
لا تقتصر المعتقدات السائدة عن الضباع على أبناء منطقة أو بلدٍ محدّد، إنّما ثمّة معتقدات وخرافات مشتركة تنتشر في المجتمعات البدوية لبلاد الشام، وتوجد في شمال إفريقيا معتقدات مُشابهة مفادها أن الضبع يُخدّر الرجال ببوله ثم يلتهمهم أحياء. ومن هذه المعتقدات أنّ الضباع تسرق الجثث من القبور، وتختطف الأطفال الصغار لاستخدام دمائها للسحر والشعوذة، كما يعتقد البعض أن الضبع إذا واجه إنسانًا سيحاول التبول عليه، ليُفقده صوابه، ويجعله يسير خلف الضبع إلى كهوفٍ معزولة، “وهو أمر غير مثبت علمياً” يقول الصحافي زاهر هاشم الذي يتّفق مع الكثير من المؤسسات البيئية التي تدعو إلى التوقّف عن صيد الضباع، لأهميتها في الحفاظ على التوازن البيئي.
ومن خلال بحثنا عبر المصادر المفتوحة حاولنا إيجاد تفسير علمي لسلوكيات مرتبطة بتبول الضباع، ووصلنا إلى أن الضباع تستخدم البول لأغراض التواصل مع القطيع والتحديد الإقليمي، مثل الكثير من الحيوانات. إذ إنّها تترك “علامات” على الأشجار أو الصخور، وتحتوي على الفيرومونات، أي على مواد كيميائية ذات رائحة تميز الفرد وتخبر الآخرين أنه في المنطقة.
يحتوي بول الضبع على مركبات قوية الرائحة، تكون منفّرة في كثير من الأحيان. والتفسير المنطقي لذلك، مردّه إلى ردّ فعل عصبي فطري يُمكن اختصاره بالتجمّد من الخوف.
كذلك، لا توجد أي دراسات علمية موثوقة أو دلائل مؤكدة تثبت أن جلد الضبع له خواص تجعل الكلاب البوليسية عاجزة عن شم الروائح أو تتبع المواد المخدرة، وهذا ما يؤكده هاشم إذ يقول: “يسود اعتقاد أيضًا أن جلود الضبع تستخدم لتهريب المخدرات بسبب عدم قدرة موجات وأشعة أجهزة الكشف والماسحات الضوئية على اختراقه، لكن هذه الادعاءات متخيلة وكاذبة، ويؤكد الخبراء أن جلد الضبع مثل أي جلد آخر يمكن للموجات والأشعة اختراقه واكتشاف ما تحته“.
سمعة مخيفة تهدّد بالانقراض
تكاد الصفات الحقيقية للضبع تختفي تمامًا أمام سمعته المخيفة، والتي تصل أحيانًا إلى اتهامه بنبش القبور وسرقتها. وما يضاعف من تلك الخرافات الجماعية عنه، هي شخصيته الخجولة والمنعزلة، وحياته الليلية التي تحول دون تواصل الناس المباشر معها.
يتميّز الضبع السوري شكليًّا عن غيره من الضباع المنقّطة مثلًا، إذ له جسم متوسط الحجم مع فراء رمادي مخطط بالأسود، ويصل ارتفاعه إلى حوالي 70 سنتم، ويتراوح طوله بين 100 إلى 120 سنتم، فيما يصل وزنه إلى حوالي 45 كغ كحدّ أقصى. وما يمنحه شكلًا مميّزًا هو العرف أو اللبلدة الطويلة التي تمتدّ على طول رقبته وظهره.
تلعب الضباع دورًا مهمًّا في التوازن البيئي بسيطرتها على أعداد الحيوانات العاشبة واصطياد الضعيف والمريض منها، وبتنظيف الطبيعة من الجثث والجيف التي تتركها الحيوانات الأخرى
ورغم أنّه حيوان ليلي وانعزالي، إلّا أنّه قد يتحرّك ضمن مجموعات صغيرة عند الحاجة، وتمشي في الليلة الواحدة لمسافة تبلغ 25 كيلومترًا، بحثًا عن الطعام وجيف الحيوانات الميتة وبقايا الطعام، مع قدرةٍ على اصطياد الكائنات الحية مثل الزواحف والطيور والحشرات.
تلعب الضباع دورًا مهمًّا في التوازن البيئي من خلال السيطرة على أعداد الحيوانات العاشبة واصطياد الضعيف والمريض منها، مما يمنع انتشار الأمراض وضمان بقاء أنواع الفرائس الأكثر صحة، كما أنها تنظّف الطبيعة من الجثث والجيف التي تتركها الحيوانات المفترسة الأخرى، خصوصًا أنّ بإمكان فكوكها القوية أيضًا تكسير العظام، مما يساعد على منع انتشار الأمراض والحفاظ على صحة النظم البيئية في أماكن وجود هذه الضباع، وفق ما يشرح هاشم.
ورغم هذا الدور الحيوي، يظلّ البشر أحد أكبر التهديدات التي تواجه هذا النوع، نتيجة الصيد للحصول على الفراء، أو بسبب المعتقدات الشعبية التي تلاحقها، أو التجاهل العلمي الذي يفاقم مخاطر اندثارها في ظل غياب أي جهود حقيقية لحمايتها ما عدا بعض الدعوات من قبل الجمعيات البيئية للتوقّف عن اصطيادها.
ماوكلي في ريف إدلب
ربما يخطر ببال كل من حضر المسلسل الكرتوني الياباني “ماوكلي، فتى الأدغال” (1989) أن قصّته ضرب من الخيال لأنها خارجة عن غريزة الافتراس التي فُطِرَ عليها هذا النوع من الحيوانات. إلا أنّ تجربة عائلة آل بيّور من بلدة كفرومة بريف إدلب الجنوبي تتشابه مع قصة ماوكلي، لكنها ليست فيلمًا كرتونيًا، كما أن بطلها كان ضبعًا وليس طفلًا صغيرًا مثل ماوكلي.
بعيدًا عن نقاط التشابه والاختلاف، منذ أكثر من ثلاثين عامًا قرر أعمام الشاب سليمان مع بعض الشبان، اصطياد ضبع من أحد أوكار وادي سخرين، بالقرب من بلدة محمبل. نجحت خطتهم لاصطياد أنثى ضبع مع جرائها الأربعة، وقاموا برعاية أحد الجراء بعد موت أمه وتقاسم بقية الجراء مع باقي المجموعة (لكل شخص جرو).
عاش الجرو الذي أطلقوا عليه اسم “شيرو” مع أطفال العائلة، وصار قصة أهل المنطقة الذين راحوا يحذّرون صائده “أبو بيور” من عودة الضبع لغريزته البرية في إحدى اللحظات التي قد يفترس فيها أحد الأطفال، إلا أنه لم يستجب وكان يعامله كما لو أنّه أحد أفراد العائلة، حتى إنه كان يعطيه الحليب بالرضاعة كأي طفل بشري حديث الولادة.
يؤكد لنا والد سليمان من خلال تجربته في العيش مع الضبع لأكثر من عام أن حقيقة الضبع هي على عكس الصورة النمطية المتداولة بين الناس، فهو اجتماعي، يعيش ضمن مجموعات، كما أنه من أذكى الحيوانات المفترسة، ويتميز بقدرة هائلة على التكيف مع الظروف الصعبة. من خلال عيشه في نفس البيت الذي تربى فيه الضبع لأكثر من سنة حاول أبو سليمان دراسة سلوكه ضمن العائلة، فيخبرنا أنه كائن يحب اللعب مع الأطفال وممازحتهم، حتى إن قطتهم كانت أكثر عدوانية منه، وكثيرًا ما كانت تستفزه بحركاتها، ولم تكن ردة فعله عدوانية تجاهها بل كان يكتفي بالتعبير عن غضبه بإدارة ظهره لها وبنفش شعر جسده من أعلى رأسه حتى نهاية ذيله.
ولأن العائلة أحبت الضبع، لم يستجب أبو بيور لنصائح الأصدقاء بقتله قبل أن يتم عامه الثاني خوفًا من عودته لطبيعته المفترسة، وحرصًا على حياته استجاب لعرضٍ مغرٍ قدمه له أحد مالكي حديقة حيوانات من مدينة الرستن عام 1994 ببيعه مقابل مبلغ يعادل 2200 دولار أمريكي.
معركة مستمرّة للبقاء
مع تصاعد الحديث عن إعادة الإعمار في سوريا، يبرز تساؤل جوهري: “هل ستشمل هذه الجهود إعادة تأهيل البيئة وحماية الحياة البرية؟ أم أن الطبيعة ستظل ضحية أخرى منسية للصراعات البشرية؟”.
يتمسّك الناشطون البيئيون بمطالبتهم بألّا تقتصر إعادة الإعمار على البنى التحتية فحسب، بل يجب أن تشمل أيضًا إصلاح الضرر البيئي وإعادة التوازن للنظم البيئية من خلال إدراج خطط لإعادة تأهيل المناطق الطبيعية المتضررة، مؤكدين أن الحفاظ على التنوع البيولوجي ليس رفاهية، بل ضرورة لضمان توازن الحياة في المنطقة.
قلبت الحرب السورية الموازين وجعلت الضباع في قلب الصراع، ليبقى مصيرها معلقًا بين الهروب، المواجهة، أو الاختفاء التام. ومع تدمير موائلها الطبيعية، يعتقد بعض الباحثين أن الضباع ربما انتقلت إلى المناطق الحدودية، أو اختارت العيش في مناطق أكثر عزلة في الجبال الوعرة. ومع ذلك، لا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد الضباع المتبقية في شمالي سوريا، إذ لا تزال دراسة التأثير البيئي للحرب في مراحلها الأولى.
ومثلما هُجّر البشر من ديارهم، وجدت الضباع نفسها أيضًا مطاردة ومشردة، تصارع من أجل البقاء في أرض كانت يومًا ما ملكها وحدها. لكن في ظل الحرب والتهجير والتغيرات البيئية القاسية، باتت قدرتها على التكيف تحديًا صعبًا، إذ أصبحت مضطرة لخوض معركة بقاء جديدة، ليس ضد الحيوانات الأخرى، بل ضد البشر الذين انتزعوا موطنها وأجبروها على الفرار.
* يُنشر هذا المقال ضمن مشروع “غرين بانتر” بالتعاون مع مؤسسة “تاز بانتر“.