fbpx

عالم متحرك اسمه القطار

قطارات الصباح تختلف عن تلك المسائية، ربما يوحدهما التعب، لكن رحلات المساء تبدو أحيانًا أكثر تخففًا فقد انتهى عمل اليوم، سيبقى مثلًا قطار الحادية عشر مساءً من القاهرة لأشمون يذكرني بحكايات الحب
27 أبريل 2023

القطار عالم، ربما يعرف الجميع ذلك، لذا يحتاج الأمر لتفصيل أكثر؛ تحمل قطارات كل دولة شيئًا من طبيعة البلاد، وقطارات مصر تعكس الكثير عن أحوال البلاد، وعلى مستوى آخر كل قطار هو عالم بحد ذاته، كل موعد لقطار يحمل معه ركابًا مختلفين متوجهين لجهات مختلفة ولمآرب عديدة لكن يجمعهم موعد القطار وعالمه.

القطارات أيضًا درجات، درجة أولى مكيفة الهواء – الآن أيضًا هناك درجة أولى vip- ودرجة ثانية مكيفة أيضًا، وقطارات تحمل درجات على الورق لكن في الواقع تتشابه حالاتها كونها بنوافذ وأبواب مكسورة، ومقاعد مهترئة، وغالبًا مكدسة بالركاب.

وتختلف درجة العناية بالقطار بحسب درجته وأيضًا بحسب اتجاهه فالقطارات بين القاهرة والأسكندرية -أول خط سكة حديد أنشأ في مصر كان بين المدينتين وبدأ العمل في 1856- تبدو أحيانًا أفضل حالًا من القطارات التي تتحرك بين أقاليم الدلتا أو المتجه إلى الصعيد. وعندما تقع الكوارث المروعة -وهي للأسف متكررة– تحصد الكثير من الأرواح. 

في عالم القطار يوجد مسافرون لمرة واحدة، مؤقتون، هؤلاء الذين يتحركون من مدينة لأخرى بهدف زيارة أقارب مثلًا، أو مجرد رؤية المدينة، لكن هناك مسافرون دائمون؛ موظفون على الأغلب، وأيضا طلاب، يتحركون بشكل شبه يومي من مختلف مدن الدلتا إلى القاهرة حيث مقرات عملهم وأماكن دراستهم، منذ بداية تحرك القطارات في ساعات الفجر الأولى ويعودون مع نهاية اليوم إلى مدنهم وقراهم.

وكما أن القطارات درجات، فالموظفون أيضًا درجات، كبار الموظفون الذين يتحركون إلى القاهرة -القضاة وأساتذة الجامعة مثلًا- يستقلون الدرجات الأعلى بينما يركب صغار الموظفون القطارات العادية، المتساوية في سوء الحالة.

مدة الرحلة تتحدد أيضًا بناء على الوجهة، فبين القاهرة والإسكندرية توجد أحيانًا قطارات مباشرة، لكن القطارات الأكثر عددًا خاصة بين مدن ومراكز وقرى الدلتا والصعيد هي أكثر بطئًا إذ تتوقف في كل المحطات الصغيرة، لتحمل موظفيها وطلابها ومسافريها المؤقتين. 

طوال سنين دراستي الجامعية تحتم عليّ التحرك بين مدينتي أشمون التابعة لمحافظة المنوفية جنوب الدلتا وبين القاهرة، لم يكن متاحًا لي الالتحاق بجامعة المنوفية، لذا كان علي قضاء ما يقرب من أربعة ساعات في القطار نصفهم في رحلة الذهاب ومثلهم في رحلة العودة، ثلاث أو أربع مرات أسبوعيًا بحسب ضغط المحاضرات، ولأن خط أشمون -القاهرة ليس بالغ الأهمية لهيئة سكك حديد مصر، ولقصر المسافة أحيانا بين المحطات، فلا توجد به قطارات ذات درجات، فقط تلك العادية -فقط الدرجة الثالثة الأكثر سوءًا- رغم أعداد الموظفين الكثيفة التي يحملها القطار ذهابًا وإيابًا حيث أن محافظة المنوفية من أعلى المحافظات كثافة على مستوى عدد السكان.

بعد قليل من قطع الإحدى عشر محطة بين أشمون والقاهرة، بدأتُ انتبه لعالم القطار، تلك العلاقات التي تنشأ بين الركاب بالصدفة، بحكم التجاور في الرحلة، وأحيانًا تكرار الرؤية. ثمة علاقات تنشأ وتمدد محلها عبر رحلات القطار، وعلاقات أخرى مدتها فقط مدة الرحلة.

قطارات الصباح تختلف عن تلك المسائية، ربما يوحدهما التعب، صباحًا عادة ما تجد رف الحقائب مليئ بالنائمين الطامعين في ساعتين نوم اضافيتين، لكن الرحلات المسائية تبدو أحيانًا أكثر تخففًا فقد انتهى عمل اليوم، سيبقى على سبيل المثال قطار الحادية عشر مساءا من القاهرة لأشمون يذكرني بحكايات الحب التي يتبادلها ركاب يشعرون بالتخفف لكونهم يحكون قصصهم لأخرين ويعرفون أنهم لن يلتقوا مرة أخرى، وهنا مسرح مناسب لإلقاء تلك الحكايات.

ثمة مشاهد وحوارات تبقى عالقة في الذاكرة، بائع متجول في أحد القطارات يمضي ليدعو الركاب الذين اعتاد عليهم لحفل زفاف شقيقه يتوقف في كل عربة يعلن عنوان عقد الزفاف وموعده ويدعو الجميع. 

بكاء أحد الركاب عندما يعرف أن أحدهم قد سقط تحت القطار وهو يحاول الركوب، ويندهش مجاوره من البكاء رغم عدم معرفة الباكي بمن سقط. راكب يواظب طوال أشهر الصيف على توزيع ماء بارد على الركاب، مجموعت لعب الورق لقتل الملل.

طوال أكثر من أربع سنوات كنت جزءًا من عالم القطار، وكان القطار جزءًا ثابتًا في حياتي، وعلى مدار سنتين كنت ألتقط الصور، كانت لدي رغبة في نقل وتسجيل أجزاء من هذا العالم من علاقاته ومن حركته وما يفرضه على الناس، وكيف يحاول الناس تشكيل حياتهم في ذلك الوقت الذي يمضونه في ذلك العالم المتحرك الذي اسمه قطار.

* تم العمل على هذا المشروع بدعم من برنامج التصوير الفوتوغرافي الوثائقي العربي