fbpx
تجمع لعمال ينتظرون زبائن ومعهم عدة العمل

مسالك الصحراء.. وأبناء التساهيل

سيرة مئة عامل من صعيد مصر، غادروا في يوم واحد سيراً على الأقدام إلى ليبيا.
ــــــــ العملــــــــ حدود
22 يناير 2021

كان أمام هلال، صنايعي البلاط المصري، طريقان فقط يمكنه أن يسلكهما لدخول الأراضي الليبية، أحدهما طريق قانوني لكنه مكلف مادياً والآخر أقل تكلفة لكنه ممنوع.

فإما أن ينتقل جواً من مصر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة ثم إلى مطار دمشق الدولي لينقله طيران أجنحة الشام إلى مطار بنينة في مدينة بنغازي في رحلة تكلف حوالي 45 ألف جنيه مصري. وإما أن يخوض مغامرة التهريب سيراً على الأقدام عبر الحدود المصرية الليبية بشكل غير قانوني مقابل قرابة 10 آلاف جنيه مصري في المتوسط.

خياران أحلاهما مر، لكن من يعش ظروف هلال سوف يختار بالتأكيد الأوفر بينهما ويبحث عن مهرّب خبير بمسالك الصحراء، رجل موثوق يعرف كيف يتجنب مزارع ألغام الحرب العالمية الثانية وينجز المهمة دون خداع أو بلطجة خلف إحدى تبات صحراء السلوم. 

هذا ما كان يتدارسه هلال مع أولاد عمّه محمود وحسن*، كلما رجع من عمله المؤقت في الساحل الشمالي، وهم يشربون الشاي على طاولة بمقهى شعبي بالبداري أحد مراكز محافظة أسيوط.

مغناطيس العملة 

الثلاثة هلال وحسن ومحمود في عقدهم الثالث، عملوا جميعاً في ليبيا منذ العام 2006 لكنهم عادوا إلى أسيوط في ظروف مختلفة. 

كان هلال أكثرهم طموحاً، عمل مع حسن بأجرة يومية لدى صنايعي بلاط مصري في مدن عديدة بمنطقة الجبل الأخضر وسرعان ما أظهر قدرات قيادية مكنته من التفوق على من هم أقدم منه في الحرفة، فتطور بسرعة وتمكن من أن يصبح صنايعياً في ظرف سنتين فقط، بينما فضّل حسن أن يعيش في جلباب ابن عمه وتنقل خلفه حيثما رحل عاملاً باليومية.

وإذا كان هلال يعمل بعقله وحواسه وحسن رجل اليومية المضمونة فإن محمود هو رجل العضلات الذي اختار طريقاً مغايراً عن الاثنين، وانضمّ، مُسلحاً بعدة شغل تضم حفاراً كهربائياً (هلتي) ومعاول وفؤوس، إلى عشرات العمال المصريين الجالسين عند جزر الدوران ومفترقات الطرق بحثاً عن زبائن يطلبون عمالاً للحفر وتكسير الخرسانات المسلحة وتفريغ شاحنات الإسمنت ونقل كميات كبيرة من الطوب على الأكتاف في مواقع البناء.

مسالك الصحراء.. وأبناء التساهيل

عامل يقوم بتحميل الرمل من الرافعة و عمال في ورشة رخام

الثلاثة نموذج مبسط للتركيبة الحرفية للعمال المصريين في ليبيا. هلال وغيره من الصنايعية هم الأعلى أجراً إذ قد يحصل على مبالغ تتراوح ما بين الثلاثة آلاف حتى العشرة آلاف دينار ليبي (بين  650 و2200 دولار أمريكي تقريباً) نظير إنجازه لمشروع بلاط يستغرق عدة أيام، في حين قد يبقى محمود عدة أيام دون أن يحصل على عمل لكن متوسط دخله اليومي يصل إلى مائتي دينار ليبي (حوالي 45 دولار). أما حسن فهو الأقل أجراً بمتوسط  يومي يبلغ مئة دينار ليبي. 

هذه الطبقية في الدخل انعكست على أوضاعهم في مصر فقد بنى هلال عمارة من عدة طوابق في مسقط رأسه واشترى شقة في القاهرة فيما نجح حسن ومحمود في بناء شقتين والمساعدة في تجهيز أخواتهما .

شهد الثلاثي أحداث ثورة 17 فبراير 2011 ولم يغادروا ليبيا إلا في مرات قليلة كانت إحداها حين عاد حسن ومحمود إلى أسيوط في العام 2013 ليقترنا بشريكتي حياتيهما ويعودا بعد ستة أشهر للالتحاق بهلال الأعزب في غربته. 

وفي عام 2015 كان الثلاثة من بين 700 ألف عامل مصري يعملون في لبيبا بحسب تقديرات الخارجية المصرية. وهو العام نفسه الذي شهد ذبح 21 عاملاً قبطياً مصرياً على يد “داعش” في مدينة سرت الواقعة وسط البلاد، ما تسبب في منع السلطات المصرية مواطنيها من السفر. 

في ذلك العام جمع محمود حوائجه ورحل مُسرعاً خوفاً من الأخبار التي تتوالى عن خطف وقتل عمال مصريين. 

أما هلال وحسن فبقيا رغم كل شيء. كان يشدّهما كالمغناطيس تفوق الدينار الليبي على الجنيه المصري وشروط العمل المعقولة مقارنة مع الوضع في دول أخرى، فلا ضرائب تُجبى ولا كفيل يبتزّ العامل ويسرق جهده. ولولا شوقهما لرؤية العائلة لما غادرا منتصف العام 2018.

مسالك الصحراء.. وأبناء التساهيل

المصدر: DYKT Mohigan. تحت رخصة المشاع الإبداعي

استراحة محارب

في مصر وجد الثلاثة أنفسهم عاجزين عن العودة إلى ليبيا، فاستبدل محمود وحسن أموال بلد الذهب الأسود بخيرات أرض الذهب الأحمر وعملا في مزارع الرمان التي يشتهر بها مركز البداري، بينما واصل “رجل العقل والحواس” تغريده خارج السرب وشد الرحال رفقة عدد من شباب الصعيد اليافعين صوب الساحل الشمالي. 

هناك تشارك أبناء الصعيد إيجار شقة في مدينة الحمام بمحافظة مرسى مطروح من أجل العمل في القرى السياحية المنتشرة في الساحل الشمالي، وتشاركوا ما هو أكثر من الشقة إذ أن جميعهم كان يفكر بالسفر إلى ليبيا، لكن كلاً منهم كان يملك نظرته الخاصة  لهذا المسار.

ففي حين يعتبر شركاء هلال في السكن أن العمل في القرى السياحية فرصة لاكتساب خبرة عملية مبدئية وجمع بعض المال قبل خوض مغامرة السفر، كان هلال يرى بعين الخبير أن الساحل الشمالي بكل مغرياته استراحة محارب في انتظار فرصة سانحة للعودة مجدداً لسوق العمل الليبي. 

صحيح أنه كان يجني مبالغ جيدة من عمله المباشر كبلاّط ومما يجود به أصحاب الاستراحات المرفهين عقب إنهاء عمله من مواد غذائية ومشروبات فاخرة، لكن لا مجال للمقارنة مع دخله في سوق العمل الليبي.

موافق من غير تردد

في النهاية يستبد هاجس العودة بالثلاثة، وخلال إحدى جلساتهم بالمقهى يقررون الاتصال بمهرب دلهم عليه أحد معارفهم. 

يطلب هلال الرقم وهو يسحب نفساً عميقاً من الأرجيلة ليصله من الطرف الآخر صوت هادئ بلكنة قبائل السلوم ذات الأصول الليبية. 

إنه سعد الثلاثيني الذي ولد مهرباً ورافق إخوته في سن الثماني سنوات في رحلات تهريب الملابس في حقائب السفر عبر منفذ السلوم وانتهى به المطاف يقود أفواجاً من البشر عبر الحدود.

طفولة شقية أكسبته قدرة فائقة على استغلال الفرص السانحة والتأقلم مع التغيرات الأمنية وتحسس الخطوط الحمراء وتجنبها. فقد هرّب كل شيء من السلع الغذائية حتى حبوب الترامادول والحشيش، لكنه لم يجازف بتهريب الأسلحة والذخائر التي يعتبرها جالبة للنحس والسجن. 

ثورات الربيع العربي كانت جائزة الفتى الأسمر الكبرى فقد ضعُفت القبضة الأمنية على منفذي السلوم وأمساعد ما جسّره على تمرير زبائنه الذين غالباً ما كانوا مطلوبين أمنيين مباشرة عبر المنفذ إلى ليبيا ولما أحس أن نظام عبد الفتاح السيسي بدأ يبسط سيطرته على مصر في عام 2014 انكمش إلى الصحراء وشرع في تنظيم رحلات تهريب راجلة بعيداً عن كمائن حرس الحدود المصري. 

هذه الرحلات كانت فكرة مهرّبي السلوم ومطروح المتمرسين. وليضمنوا ثقة زبائنهم ضمّنوا اتفاقهم عدم تلقيهم أي مبالغ إلا عند وصول الشخص إلى ليبيا واتصاله بأهله في مصر ليدفعوا ما عليه.

ولكي يضمنوا حقوقهم أنشؤوا مع نظرائهم في ليبيا مراكز احتجاز للعمال الواصلين سموها المخازن.. وهذا تماماً ما اطلع سعد هلال عليه خلال المكالمة ووافق عليه الأخير دون تردد.

مسالك الصحراء.. وأبناء التساهيل

معبر أمساعد، الحدود المصرية الليبية. المصدر: google earth

رحلة الاثني عشر كيلومتراً

يدشن حسن ومحمود حملة وداعية لأقاربهم وأصدقائهم في البداري، بينما يمضي هلال وقته في طبع القبلات على رأسي والديه.

في اليوم الموعود يُلاقي سعد ورفاقه هلال ورفيقيه خلف مطعم بسيدي براني وينقلونهم إلى مخزن يختبئ فيه 100 عامل من أسيوط والبحيرة والمنيا والفيوم ويتم إخبارهم بأن رحلة المشي ستتم عبر درب لا تتجاوز مسافته اثنا عشرة كيلو متر. 

عند العصر تبدأ المرحلة الأولى من المهمة وينقل العمال في سيارات البيك آب مسافة 80 كيلو متر إلى هضبة السلوم التي يتمركزون فيها للتخفي عن دوريات حرس الحدود المصرية. 

ومن هناك يلقي هلال ورفيقاه نظرة على الشاحنات المتجهة شرقاً محملة بالبضائع وهي تسير بتؤدة على الطريق المتلوية مثل أفعى ويستذكرون لفة السيراميك الشهيرة التي تتراكم جانبها بقايا السيراميك المتروكة من انقلاب شاحنات لم يكتب لها عبور المنحدر بسلام.

ولن يفوت الثلاثة فرصة مشاهدة مياه البحر الأبيض المتوسط وهي تغرق في الظلام وعندها يعلن سعد ومرافقوه بدء رحلة المشي المجهدة. 

هلال يبحث عن الحرية 

ينطلق أمام الحشد أحد مرافقي سعد ليضمن عدم وقوعهم في يد إحدى الدوريات وخلفه يسير سعد الذي يقود المجموعة ممسكاً بمصباح يدوي. 

يتوالى صعود التلال المليئة بالصخور ونزول الأودية.. الأفواه تبتلع الماء بعطش والعيون ترقب الظلام في خوف، فأي بقعة يمكن أن يكون مدفوناً تحتها لغمٌ مترصد وأي ضوء يلوح من بعيد هو بالتأكيد نهاية المغامرة.

ومن يقبض عليه حرس الحدود المصري للمرة الأولى سيحبس لأسبوعين ويحكم  بثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ، ومن يعاود الكرة سيدخل السجن ليقضي مدته وراء القضبان، في حين سيتوجب على صاحب المرة الثالثة أن يبقى في السجن لمدة تتراوح بين الستة أشهر والسنة.

بدأت الهواجس تسيطر على السائرين مع مضي أربع ساعات من المشي الحثيث أعقبتها راحة لنصف ساعة ثم مواصلة المسير تحت سقف السماء المظلم في هذه الليلة الخالية من القمر من شهر مارس 2019. 

الصمتٌ واللهاث يدفعان محمود للحديث عن جلسات مراجعة الذات التي كان يجريها كل يوم جمعة  في غرفته الضيقة في ليبيا محاولاً إقناع نفسه بترك أعمال الحفر المتعبة والتحول إلى صنايعي، وكيف أنه لم ينجح  في اتخاذ هذا القرار في خلواته لوجوب أن يعمل أجيراً باليومية حتى يتقن أسرار المهنة لدى صنايعي يحدد له متى يخلد للنوم ومتى يصحو ويحصى له أنفاسه، وهو ما لم تستسغه نفسه التواقة إلى الحرية. 

مسالك الصحراء.. وأبناء التساهيل

المصدر: فيسبوك

مع محمد صلاح

يشتم هلال رائحة الغمز فيُخرج هاتفه النقال مدعيا السؤال عن الوقت ثم يخرج السماعة ويوصلها بالجهاز ويضع طرفيها في أذنيه قبل أن يشعل سيجارة ويمضي متقدماً بخطوات عن رفيقيه. 

يحس حسن بتوتر الأجواء فيبتدع حكاية عن مباراة محمد صلاح الأخيرة مع ليفربول وسرعان ما ينهمك الجميع في الحوار المصطنع. 

إنهم يحبون صلاح ليس لأنه نجم مشهور بل لأنه مثلهم ابن التساهيل. تلك المسارات التي يهيئها الله للكادحين كلما أُغلقت مسارات البشر وضاقت فسحة الأمل.. فعندما يكسد العمل في ليبيا ينتظرون تساهيل الله وعندما يسافرون في الظلام والألغام والكمائن تترصدهم يرفعون وجوههم إلى السماء متيقنين أن التساهيل ستوصلهم إلى وجهتهم في أمان.   

بعد ساعتي مشي يتعالى لهاث الرجال فيأذن لهم سعد بساعة من الراحة.. يستلقي الجميع على الأرض بعضهم يسأل بحنق عن ما تبقى من كيلو مترات وبعضهم الآخر ينزع أحذيته الرياضية ليريح الأقدام المنتفخة  وآخرون يسدون جوعهم ببعض الأكل فيما يستغل سعد الفرصة لتذكيرهم ببنود الاتفاق: 

“الاحتجاز في مخازن ليبيا حتى يقوم ذووكم في مصر بدفع ثمن الرحلة.. طبرق 5 آلاف جنيه مصري.. البيضاء سبعة آلاف.. بنغازي عشرة آلاف ومصراتة خمسة عشر ألفاً”.

سعد الذي يتقن لعبة التخويف والطمأنة يتفحص زبائنه المنهكين بضوء مصباحه الخافت ويستشعر تذمرهم لطول المسافة فيغير نبرة صوته ويلقي خطبة طويلة عن الرزق الحلال المخضب بعرق الرجال، ويبشرهم بأن ساعة مشي أخرى ستضعهم في سيارات البيك أب الليبية ويحثهم على معاودة المسير.

يصدُق سعد هذه المرة فها قد لاح السلك المعدني الفاصل بين الدولتين ومن خلفه أضواء سيارة تضيء وتنطفئ مرحبة بهم.

النوم في المستودع

إذا كانت رحلة مصر بطيئة  فإن رحلة ليبيا تسير بمزاج متقلب بين السرعة المفرطة والتوقف التام.

يحشر العمال المئة الداخلون للبلاد بطريقة غير قانونية في صناديق مكشوفة لخمس سيارات تويوتا ذات دفع رباعي.. وينطلق السائقون بسياراتهم في سرعة وكأنهم يروضون أفاعٍ تلتف على الطريق الترابية المليئة بالحصى.

يتشبث هلال برأس حسن المحشور تحته فيما يمسك الأخير بساقٍ ممدودة قرب وجهه دون أن يرى وجه صاحبها، أما محمود فقد افتك بعضلاته مكاناً في إحدى الزوايا وبالكاد يجلس مقرفصاً وعلى يمينه وشماله يتكور عدد من الرجال الذين تمر بينهم أقدام الراقدين في المنتصف. 

وبهذا تتشابك الأجساد وتتلاصق لتشكل كتلة لحم كبيرة تحميهم من السقوط خارج علبة الموت المعدنية كلما قفزت السيارة في الهواء ثم هوت بعجلاتها على الأرض غير المستوية وكأنها طائرة ينزلها على المدرج قائد مخمور. 

بعد مسير ساعة تتوقف السيارات في مكان خالٍ إلا من مستودع كبير وبجانبه غرفة صغيرة وشجيرة شيح يتيمة. 

على الفور يبدأ المسيطرون على المكان في تسجيل أسماء العمال ووجهاتهم التي ينوون قصدها ثم يدخلونهم في المستودع بجدرانه العالية المبنية بالطوب وسقفه المغطى بصفائح الزنك والمليء مسبقاً بعمال وصلوا على دفعات خلال الأيام الماضية.

مسالك الصحراء.. وأبناء التساهيل

المصدر: فيسبوك

مراسم استلام وتسليم 

نام الرفاق الثلاثة ليلتهم متعبين على أمل أن توصلهم سيارة صباح الغد إلى وجهتم، لكنهم سرعان ما أدركوا أن عليهم الانتظار بضعة أيام لا يعرف عددها.. هي أربعة أيام قضوها بين حلقات التعارف مع شركاء المستودع وشراء علب البسكويت والمعلبات بأسعار مرتفعة من دكان صغير بالداخل أو انتهاز فرصة لدخول دورة المياه الوحيدة.. وأسعدهم حظاً من سُمح له بشحن هاتفه النقال في غرفة المهربين المجاورة.

وفجأة ودون مقدمات يعود النسق السريع للرحلة: يدخل أحد المهربين المستودع وينادي على سبعة أسماء من بينهم هلال ومحمود وحسن.. في الخارج يوزع الرجال السبعة داخل سيارة هونداي سوناتا.. اثنان على المقعد المجاور للسائق، ثلاثة في المقعد الخلفي وسيئا حظ أحدهما حسن يحشران مثل سمكتي سردين في الصندوق الخلفي.

السائق الشاب يحييهم ويطلب منهم أن يرددوا عند نقاط التفتيش أنهم عمال ذاهبون بشكل روتيني إلى منزل زبون وينطلق بسرعة نحو طريق مسفلت يبقى فيه ساعة ثم يدخل طريقاً ترابياً يسير فيه طويلاً ولا يتوقف إلا قرب بيت قديم تربض أمامه سيارة تويوتا كامري بنوافذ معتمة.. 

بسرعة يخرج رجلان من البيت ويطلبان أن يدفع كل من هلال ومحمود وحسن مئة جنيه مصري عن الرحلة القادمة ويستبدلان رفاقهما الأربعة بأربعة آخرين.

تتكرر مراسم التسليم والاستلام وفرض الأتاوات عدة مرات يفقد خلالها الثلاثة قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم وقدرتهم على تمييز المسافات والأمكنة. وكل ما يكتفون بفعله هو تناوب الاستلقاء داخل الصندوق الخلفي لكل سيارة يركبونها وإلقاء التحايا المهادنة على السائقين وتوسلهم التوقف والسماح ببعض التهوية لنزلاء الصندوق الخلفي.  

عودة لتركيب البلاط

المحطة الأخيرة تكون داخل مزرعة يحيطها سور من الطوب الإسمنتي تحفه أشجار بلوط عالية.. يُطلب منهم الاتصال بذويهم في مصر وإبلاغهم بوجوب تسليم ثمن الرحلة إلى سعد. 

حالما يتم الأمر يُجرد الرفاق من كل أموالهم وهواتفهم النقالة باستثناء جهاز نوكيا قديم (بيلا) وجدوه في جيب حسن ثم تفتح البوابة ويؤمرون بالمغادرة والسير دون توقف. 

بعد نصف ساعة من الركض والتوجس وخفقان القلوب يجدون أنفسهم على أطراف مدينة البيضاء التي تبعد عن الحدود المصرية أزيد من أربعمئة كيلو متر فيتصل حسن برفيق قديم طالباَ منه أن يرسل سائقا ليبياَ لاصطحابهم. 

في سكن العمال بالمنطقة الصناعية تكون نهاية الرحلة المضنية. خمسة أيام من النوم الطويل والراحة لطرد الآلام والتقلصات وسط رفاق الغربة وأحاديثهم الطويلة.

مشاهدة مباراة فريق ليفربول ضد ساوث هامبتون في الدوري الإنجليزي هي أفضل مناسبة لخطو الخطوات الأولى خارج السكن والجلوس على طاولة القهوة.

الريدز يفوز بثلاثة لهدف وصلاح ابن التساهيل لم يخيب الظنون ويسجل الهدف الثاني.. الجميع يحتفل بالهدف وبوصول الرفاق سالمين.. حسن يستذكر مازحاً مرقده في صندوق السيارة الخلفي، فيما محمود يروي قصة جلوسه مقرفصاً في علب الموت المكشوفة.

غير بعيدٍ منهم يقف هلال خارج البوابة الزجاجية بهيئة ظافرة يجري اتصالاً هاتفياَ مع زبون ينوي في عجل تركيب بلاط لأرضية بيته المبني حديثاً.

*جميع الأسماء الواردة في القصة مستعارة