fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

أخبار “ثائر” عندما تنتهي “الثورة” 

مقاتل/جريح/تاجر أسلحة/بائع بسوق العملة/لاجئ في أوروبا/طالب جامعي/موظف/سمسار عقارات.. كيف أصبح لكلمة "ثائر" أكثر من معنى في حياة شاب عاش الثورة الليبية
20 أكتوبر 2021

لا ينام “أصيل” أكثر من أربع ساعات في اليوم. يسهر إلى آخر الليل ثم توقظه اتصالات العمّال الذين يشتغلون معه لبناء إحدى الاستراحات في ضواحي طرابلس. كان يبني ليبيع. مع أول اتصال ينهض من الفراش، يتحسس بندقية الكلاشن النائمة بجانبه، واحدة من قطعتيْ سلاح تبقت في حوزته منذ آخر أيام عمله في تجارة السلاح، يتأكد أن لا أحد يراقبه في الخارج، ينهي الاتصال، يلعن ويشتم المتصل بينما يغسل وجهه، يخرج ليشرب القهوة، يتصل بي لأمضي معه بعضا من الوقت في المقهى.

قبل تسع سنوات، وقبل أن يعمل في تجارة العقارات، كان أصيل (اسم مستعار) يملك ترسانة من الأسلحة: آربي تجي، بنادق، رمّانات، مسدسات 9 مللي، ورشاشات يبيعها لمن يحتاجها، في عصر تحققت فيه نبوءة الأخ القائد في كتابه الأخضر بأن تكون “الثورة والسلطة والسلاح في يد الشعب”.

ليس السلاح فقط ما تبقى لأصيل من تذكارات الثورة الليبية، إنّما يملك مجموعة من الندبات في شق جسده الأيسر، في ذراعه وكتفه وصدره وبطنه. تحصّل على هذه الندبات في أكتوبر 2011 بعد أن التحق في العشرين من العمر بالثوار المنتصرين على كتائب العقيد الليبي الراحل بطرابلس في طريقهم لاجتياح مدينة سرت للبحث عن العقيد الفار من العاصمة إلى مسقط رأسه. 

في ذلك اليوم، وبينما كان أصيل فوق تويوتا “ثعلوبة” يسدد الضربات بسلاح مضاد للطائرات إلى مواقع العدو، سقطت بالقرب من سيارته قذيفة كان نصيبه منها أن تتناثر شظاياها في جسده وتلقيه في غيبوبة.

أخبار

المصدر: صفحة الجرحى والمرضى الليبيين في التشيك (فيسبوك)

في غرفة العناية 

في نفس الشهر الذي أصيب فيه أصيل أعلن رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبدالجليل عن استحداث وزارة تحت اسم وزارة رعاية أسر الشهداء والجرحى. تولت الوزارة تكاليف علاج الجرحى الساقطين في المعارك ضد قوات العقيد خارج البلاد، فامتلأت مصحات تونس والأردن وتركيا وفنادقها بالشباب الليبي الذين تنوعت إصاباتهم من كسور وجروح إلى أطراف مبتورة وتشوهات في الوجه.

أمكن للعالم خارج ليبيا أن يرى ما الذي فعلته شهور من الحرب في شعب كان قبل ذلك يأتيها للعلاج من الروماتيزم، السرطان وأمراض أخرى كانت مستعصية على نظام الطب الليبي الهزيل.

ولكن قبل أن يدخل أصيل في مرحلة البحث عن العلاج في الخارج، كان عليه، كغالبية الجرحى أن يجرّب السرير في مستشفى شارع الزاوية للجروح والحوادث بالعاصمة طرابلس؛ ألقيَ بجسده في حجرة العناية مع مجموعة من الجرحى الآخرين حيث أكمل غيبوبته فيها، ليستيقظ في مصحة تونسية عجزت عن علاجه، ومن ثمّ في مستشفى هولندي بمدينة أوترخيت جنوبي أمستردام. كانت تلك الرحلة هي أول مرة يسافر فيها أصيل خارج ليبيا.

كانت الأيام الأولى داخل حجرة العناية جحيماً عليه، داخل بلاد لا يعرف عنها شيئاً ولا يفقه إلا القليل من اللسان الإنجليزي ليتواصل مع رعاته، مخدّراً وملقياً على السرير، يدخل ممرض مرتدياً بزّة كاملة كروّاد الفضاء حتى لا تنتقل أي عدوى منه إلى المريض الممنوع من الزيارة، يجري الفحوصات الدورية على جسده دون أن يتحدث معه ومن ثم يخرج.

عشرون يوماً مرّ فيها بهذه الحالة ولم يجرِ العملية بعد، كان جسمه مخردقاً بالشظاياً ونفسُه بالغضب والخوف من الموت. في اليوم العشرين، وبعد محاولات للتواصل مع الممرض كان يشتمه فيها بالعربية صارخاً في وجهه، “يا ولد القحبة… اسمعني، شن أنا حيوان؟” نفذ صبره؛ وبعد أن اقترب الممرض منه ليجري له إحدى الفحوصات، أمسك بخناقه وهدده أن لا يتركه إذا لم يطلب الطبيب ويجروا له العملية.

بعد أن انتزع الأطباء من جسده ما أمكنهم انتزاعه من الشظايا انطلق أصيل لتجربة الحياة الأوروبية والتجول في شوارع أوتريخت وآمستردام 

لم تكن قصة أصيل بنادرة في حياة الجرحى الليبيين داخل وخارج بلادهم. داخل بلادهم كانوا يعانون الإهمال وغياب التعقيم وجهاز إداري وطبي فاشليْن، تعيث الجراثيم والصراصير في غرف المستشفيات بينما يدخن بعضهم الحشيش ويشربون المشروبات الكحولية، وفي خارج البلاد كان الفساد ينخر ملفهم كما هو الحال في الملفات الأخرى. 

أصبح المتاجرون بهذا الملف في ممثلي “وزارة رعاية أسر الشهداء والجرحى” وممثلي المصحات يتبادلون المنفعة ويدخلون فئات أخرى من المصابين في حوادث السيارات والحوادث المدنية داخل ملف جرحى الحرب. 

شارك جرحى الحروب في مظاهرات تطالب الوزارات المتلاحقة بالالتفات لهم، كان يمكن أن ترى مجموعة من الشباب مقطوعي الأطراف يحملون لوحات بيضاء تحمل مطالبهم. آخرون، دخلوا في حالة من اليأس مع السعار الإجرامي، فمن شرفة فندق بارتفاع 12 طابق خُصص للجرحى الليبيين في العاصمة تونس ألقي بعاملة جنس إلى شارع الحبيب بورقيبة. سرعان ما اقتحم تونسيون الفندق وهاجموا الجرحى مطالبين بطردهم وسط صرخات “الله.. معمر.. ليبيا وبس”. كان المشهد في كل مكان به جريح مشهداً كافكاوياً.

رحلة علاج

لم يحب أصيل الحديث عن حياته داخل المستشفى الهولندي، عرفتُ قصته من صديق مقرب له ومن لقاءات عابرة وسريعة جمعتنا ثلاثتنا. لكن ما أحبّ الحديث عنه هو حياته بعد المستشفى.

بعد أن انتزع الأطباء من جسده ما أمكنهم انتزاعه من الشظايا وزرعوا البلاتين في الأماكن الفارغة وتركوا أجزاء صعبة النزع على أمل أن تتحلل مع الزمن أو يتعلم التعايش معها، انطلق أصيل لتجربة الحياة الأوروبية والتجول في شوارع أوتريخت وآمستردام في النهار. 

حدثني عن “الرقص والسُكر في مقاهي الحشيش والإكستازي”، وعن سهراته مع عاملات الجنس في الشوارع الحمراء وفي شقته المؤجرة. كان منغمساً في رحلة “علاج” أخرى لأشهر في هولندا وبعدها إلى إيطاليا ومالطا؛ هي أيضاً على حساب الدولة الليبية.

كان يحدثني عن تلك الأيام بمرح، وبروح ساخرة، يحكي عن “أنواع غريبة من البشر” التقاهم من كل الملل والأفكار، بشر لم يلتقِ بهم في وطنه قبل ذلك، امتلأت خزينة تجاربه الحياتية دفعة واحدة في أقل من عامٍ واحد، البعض قال إنّه عاد مجنوناً مما رآه من ويلات الحرب وويلات هولندا.

كان عليه أن يعود إلى بلده على أيةِ حال، فهو لازال طالباً جامعياً وفي وضع صحي واقتصادي يسمح له بالعودة إلى الحياة “الطبيعية”. تعلم درسه على خلاف الكثيرين من أقرانه الذين عادوا إلى حياة الجبهات والكتائب بعد إصابتهم، حتى مبتوري الأطراف منهم. 

مجموعة منهم كانت تعود لرفاق الحرب، للمجموعة الوحيدة من البشر التي بإمكانها أن تتقبلهم، فقد تحول المجتمع الليبي في خلال عام واحد فقط من تمجديهم يوماً إلى مشيطن لهم. صارت كلمة ثائر في ليبيا حمّالة أوجه، يستخدمها الناس للتمجيد والسخرية.

مقاتلو الحرية، قاتلوها 

باءت “محاولات” الدولة الليبية بالفشل في إيجاد بديل شرعي للذين انضموا في صفوف الثورة. انتشرت أسواق السلاح حتى أمكن في بعض المناطق أن تشتري قطعة كلاشن بثلاثمئة دينار ليبي (ما يساوي في تلك الفترة 150 دولار) من بسطة على الرصيف. كان “الأحمق” فقط من لم يشترِ أو لم يتحصل على قطعة سلاح واحدة هدية. 

العام الثاني للثورة الليبية كان مختلفاً في حياة أصيل، وجد نفسه بين رغبة أن يعيش حياة مدنية وبين انفتاح حياة أخرى له عبر علاقاته بالمجموعات المسلحة. أصدقاء المعارك للإنسان، في العادة، يملكون ميزة على رفاق الدراسة والعمل والحياة، هم الرفاق الوحيدون في حياته الذين شاطروا معه الخوف والموت.

أطاحت الثورة الليبية لأول مرة بأكبر مجموعة من الضحايا والجرحى العُزّل على مرأى العالم أجمع وتحول “مقاتلو الحرية” لقاتليها، أعادوا صورة كتائب نظام العقيد في 2011 التي كانت ترمي العزّل بالرصاص 

دخل أصيل بسرعة في سوق تجارة الأسلحة. كان أحياناً يجرّب السلاح أمام المشتري داخل الحي الذي يقطن فيه، أطلق زميلٌ له ذات مرة قذيفة آربي جي في الهواء بالقرب من باب بيته، فقط ليتأكد أنها تشتغل. 

في الصباح تبدأ حياته الجامعية، كان أصيل أكثر الطلاب تميزاً، إذ وفي فترة قصيرة التحق بزملائه واجتازهم في تعداد المواد المنجزة. في العشية تبدأ حياة التجارة، في الليل، تبدأ حياة رفاق الحرب. أصيبت نفسه بالأرق، أحياناً كان لا ينام إلا ساعة أو ساعتيْن، وفي الأيام الجيدة ينام لأربع ساعات، كان نادراً ما ينام ثماني ساعات. ” لم أنم منذ أيامٍ ثلاثة”، كان يخبرني في بعض المراتِ، كنتُ أصدقه؛ لأنني وفي مراتٍ كثيرة، شاطرته السهر ولم تغب عينه عن النوم إلا في ساعة كان يتحرك ويهذي فيها في نومه، أحياناً يسبُ إنساناً آخراً داخل منامه.

أحداث غرغور يوم الجمعة في نوفمبر 2013 كانت المسمار الأخير الذي دُقّ في نعش صورة الثوار. يومها خرج مجموعة من المتظاهرين ضد وجود المجموعات المسلحة داخل مدينة طرابلس في منطقة غرغور ليواجهوا ترسانة مسلحة ترميهم بالرصاص، لتطيح الثورة الليبية لأول مرة بأكبر مجموعة من الضحايا والجرحى العُزّل على مرأى العالم أجمع. تحول “مقاتلو الحرية” لقاتليها، وأعادوا صورة كتائب نظام العقيد في 2011 التي كانت ترمي العزّل المطالبين بالحرية بالرصاص. 

مفارقة عجيبة عجّلت بتحطيم أوثان كادت أن تتغول أكثر في المجتمع الليبي. لم تعد حوادث القتل والعرقلة التي يصطنعها الثوار حوادثاً فردية، صارت صورة كاملة لبلاد فشلت في الانتقال السلمي للسلطة. بعد ذلك بأشهر، ستشتعل الحرب الأهلية الليبية الثانية.

أخبار

مدينة سرت، نوفمبر 2011. المصدر: Christian Jacob Hansen. تحت رخصة المشاع الإبداعي

دعوة عشاء 

في تلك الفترة، توقف أصيل عن التجارة بالسلاح، بنى شقة له في قطعة أرض وهبها له والده وظل يعيش فيها وحيداً، كان في بعض الليالي يخرج فزعاً حاملاً سلاحه الوحيد في باحة البيت يبحث عن سارق خيّل له عقله بأنّه قفز إلى البيت، “من هناك؟ أخرج أعرف أنّك موجود” كان يناديه، يضرب مجموعة من الرصاصات ومن ثم يعود لغرفة نومه محاولاً النوم، لم تفارق بندقيته سريره. 

قبل ذلك فقط نشأت صداقة بيني وبينه، كان يحتاج مساعدة منّي في الانتهاء من تقرير لإحدى المواد الدراسية، “أخبروني أنّك تكتب جيداً، هل تساعدني في الكتابة؟ وأعدك بأن أعزمك على العشاء، على وجبة حوت”، قال لي. كتبتُ التقرير، وظللت أنتظر أن يعزمني على العشاء، لكن وفي كل مرة كنا نتواعد فيها يلغي الموعد، عرفتُ بعد ذلك بأنّه كان دائماً عالقاً في إحدى صفقات السلاح، لم أتحصل على العشاء، ولكن ما تحصلتُ عليه بدلاً من ذلك هي واحدة من أكثر القصص الإنسانية درامية وتأثيراً في حياتي.

في كلية الهندسة حيث كان يدرس، كانت شركات النفط حتى بدايات 2014 تضع إعلانات عن رغبتها في توظيف خريجين جدد، كانت الفرص مفتوحة، بعض من زملائه القدامى أفلحوا في الحصول على بعضٍ من هذه المنح والعمل مع شركات نفط عالمية كشلمبرجير وإيني؛ ولكن نظراً لتغيبه عن الدراسة لفصل دراسي كامل، لم تتسنى لأصيل أن يلتحق بها. 

الكثيرون كانوا يخبرونني بأنّ أصيل قبل معركة “سرت” ليس هو بعدها، يحدثونني عن نسخة منه خجولة، ضعيفة، عاقلة ولا تعرف شيئاً عن العنف، نسخة لم ألتق بها إلا داخل شظايا روحه

لسوء حظه، كان موعد تخرجه متزامناً مع الحرب الأهلية التي اشتعلت في طرابلس ليُحرق مطار طرابلس الدولي في يوليو من نفس العام؛ بعد دخول قوات من مدينة مصراته وسيطرتها على مواقع كانت تابعة لقوات من مدينة الزنتان. دخلت ليبيا في أزمة اقتصادية، ليسقط سعر الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية لأول مرة في تاريخه منذ اكتشاف النفط في خمسينيات القرن الماضي.

لم يجد أصيل إلا شركة محلية للعمل فيها كفنّي، وفي أول يوم عمل له داخل الشركة، تعارك مع مديره وترك العمل بها، ليجد فرصته في السوق السوداء للعملات الأجنبية، السوق الذي بدأ يزدهر بالباحثين عن الكسب السريع والمغامرين وتجار الأزمات، فيدخل مثلهم في نفس المتاهة. 

كان الشيء الوحيد الذي يذكره بجراحه وبأيامه في أمستدرام وأوتريخت وسانت جوليان بمالطا هو عندما يجابه جروحه عارياً تحت حمام الماء والصابون، كان عليه حينها أن ينكشف أمامها بعد يوم كامل من التغطية ونسيان وجودها، في تلك اللحظات يذكر كيف عاش أيام الحرب في سرت، ويعيش أصوات الرصاص والمدافع والقنابل. طبعاً بالإضافة لكوابيس المعارك في سرت التي تطرد نومه منه.

مشاهد طبيعية 

أعرف معاناة أصيل جيداً، فقد كنتُ شاهداً على بعضٍ منها، أحياناً كنتُ أسهر معه في شقته لأجد دستة ضخمة من المال على الطاولة، يتركني أنام على الكنبة بعد أن ننتهي من السهر، ومن ثم يدخل للنوم في غرفة نومه، يغلق باب الشقة بالمفتاح، ومن ثم يغلق باب غرفته بالمفتاح أيضاً، عندما أستيقظ مبكراً، أضطر لأنّ أطرق باب غرفته ليسمح لي بالخروج. أحياناً أخرى أيضاً، وعندما نكون سوياً في الطريق، يحدث أن تركن سيارة لفتاة أمامنا، فيغازلها حتى تبتسم له وترخي دفاعاتها الأنثوية، وعندما تفعل ذلك، يغضب ويتحول ويرميها بقنينة مياه بلاستيكية ويناديها “يا قحبة”. ومن ثم يشكي لي بأنّه لم يجد أبداً امرأة تتفهمه، وبأنّه لا يعرف التعامل معهن.

“اليوم وفي طريقي المعتاد حدث وأن اجتازني أحدهم بالطريقة الخطأ وكدت عندها أن أرتطم بسيارة أخرى، التحقت به وأرغمته على الوقوف، نزلتُ من سيارتي وقبل أن ينزل من السيارة ليعتذر لي أو يحدثني، أخذت رأسه وضربته باب سيارته أكثر من مرة، لم أحادثه، تركته مرمياً هناك وعدت لسيارتي، قبل أن أصل للمقهى”، أخبرني ذات مرة، يسرد مشهداً طبيعياً بالنسبة له، كان مشهد أن يحاول أحدهم اجتيازك بطريقة خطأ في ليبيا أيضاً مشهداً يوميا اعتيادياً.

الكثيرون كانوا يخبرونني بأنّ أصيل قبل سرت ليس هو بعدها، يحدثونني عن نسخة خجولة، ضعيفة، عاقلة ولا تعرف شيئاً عن العنف منه، نسخة لم ألتق بها إلا داخل شظايا روحه. في إحدى تلك الليالي التي أسهر فيها معه لنلعب Call of Duty، اللعبة الوحيدة التي انجذب لها، جذب انتباهي هلعه أمام باب شقته عندما لاحظ وجود بوبريص فوق الباب تماماً ليرتجف خوفاً ويبدأ في لعن الحيوان ومطاردته، لم يقبل الدخول للشقة حتى تمكن من قتل الحيوان الضعيف، خفتُ وقتها أن يدخل حاملاً السلاح يفرغه في جسد المتطفل آكل الحشرات والذي يخافه الليبيون لأنّه أحد الحيوانات الملعونة في الإسلام.

نداء الهجرة

كانت 2014 سنة فاصلة في حياة كل الليبيين، تحولت البلاد إلى جهنم، وكأنّ اسم بلدة جهنم التي ولد فيها العقيد الليبي شكّل لعنة للبلاد، توقف كل شيء، تحولت المناوشات المسلحة بين الفينة والأخرى إلى معارك شهرية بين فصائل كانت في فترة ما تحمل الهدف نفسه، تبدل حكّام مدينة طرابلس المسلحين والسياسيين أكثر من مرة، انهار النظام الصحّي والاقتصادي وقطاع النفط وبدأت أكبر موجات الهجرة من ليبيا إلى أوروبا. 

تحمل أمواج البحر المتوسط المهاجرين من بلدان جنوب الصحراء والمهاجرين السوريين والمغاربة وجنسية جديدة، جنسية ليبية كانت محاولات الهجرة من أبنائها مجرد محاولات فردية، بدأت الأمواج تحمل الشباب والعائلات الليبية إلى السواحل الإيطالية أو العودة بجثث منتفخة على السواحل الليبية مجدداً.

في حالة الرفض سأعود عبر معبر رأس اجدير الحدودي بين تونس وليبيا ومن ثم أدخل مدينة زوارة وأتواصل مع مهرب أعرفه، سأرمي قدمي بطلقة مسدس 9 مللي ومن ثم أركب البحر حاملاً ورقتي وطلباً للجوء الإنساني

نمت رغبة الهجرة في صدرِ أصيل، وصارت هدفه ولكن كان يخاف أن يغرق في البحر، استمر في العمل بالسوق السوداء إلا أنّ طبيعة عمله تبدلت مع تبدل “الترند” الاقتصادي في البلاد، مرة في التجارة بالبطاقات الائتمانية وسحب الدولار في تركيا ومن ثم العودة إلى ليبيا، مرة أخرى في مُنح أرباب الأسر التي ابتدعتها حكومة الوفاق، حتى اندلعت الحرب على طرابلس ووصول قوات الجنرال الليبي خليفة حفتر لأول مرة على أبواب طرابلس. عرف أصيل وقتها بأنّ عليه أن يلبّي نداء الهجرة. 

في أغسطس 2019 حاول أن يقدم على تأشيرة للإقامة في ألمانيا، رفضت سفارة ألمانيا في تونس طلبه، فكّر وقتها بأن يقدم مرة أخرى وأن يجهز خطة بديلة، اتصل برفاق الحرب مرة أخرى بعد مدة من الابتعاد عنهم، جهزوا له ورقة مكتوب فيها بأنّ قوات حكومة الوفاق تطالب بالقبض على المدعو  في أقرب وقت ممكن وذلك لتخلفه عن تلبية نداء الواجب للدفاع عن طرابلس قد قوات حفتر. كانت الخطة أن لا يعود إلى ليبيا إلا بعد أن يتحصل على ردّ السفارة الألمانية بالموافقة أو الرفض.

“في حالة الرفض سأعود عبر معبر رأس اجدير الحدودي بين تونس وليبيا ومن ثم أدخل مدينة زوارة وأتواصل مع مهرب أعرفه، سأرمي قدمي بطلقة مسدس 9 مللي ومن ثم أركب البحر حاملاً ورقتي وطلباً للجوء الإنساني”، أخبرني بهذه الخطة عند لقائي به في تونس، كان ذلك اللقاء آخر لقاء حتى بداية 2020 حيث كنتُ أزور تونس بشكل متصل.

أخبار

مهاجرون في المتوسط. المصدر: Óglaigh na héireann. تحت رخصة المشاع الإبداعي

لكن هذا لم يحدث، في يناير 2020 وصل رد السفارة الألمانية بالموافقة، رافقته إلى مبنى السفارة وانتظرته في الخارج ليعود خارجاً بعد ساعة حاملاً جواز سفره. كانت الفرحة في وجهه لا توصف، أول مرة أراه فيها يبتسم كطفل خارج مبنى السفارة الألمانية بالبحيرة في العاصمة التونسية وهو يرى التأشيرة الألمانية ملصقة على جواز سفره. اليوم التالي، حجز تذكرة للسفر إلى ألمانيا حاملاً أمواله التي تحصل عليها بالعمل في السوق السوداء ليبدأ حياة جديدة. شهر واحد فقط قبل انتشار فايرووس كوفيد-19 من الصين إلى ما تبقى من العالم. عاد مجدداً إلى أوروبا، الآن في الثلاثين من عمره.

مجرّد كذبة

كان العام 2020 عاماً لاكتشافات شخصية للكثيرين حول العالم، بالنسبة لأصيل، اكتشف بأنّ الحلم الذي عاش من أجله، “مجرد كذبة”، وهم لم يستطع تحمله. لم يتمكن من العيش في ألمانيا إلا لأشهر وقد خرج كارهاً للمجتمع المثالي الذي رسمه في خياله عن أوروبا. كان يتصل بي دائما يشكو لي التعقيدات الإدارية والإنسانية وتعاملات المجتمع الألماني معه، “مرة أردتُ استئجار عاهرة، قالت لي آسفة لا أخرج مع العرب”، قال لي ذات مرة.

وجد نفسه في ألمانيا أيضاً باحثاً عن أي ليبي يمكنه أن يتواصل معه ويشرب القهوة. أحياناً كان يلتقي بأناس لم يكن ليفكر في التواصل معهم داخل ليبيا فقط لأنّه كان يشعر بوحدة مرعبة. لم يحتمل؛ انتقل إلى مالطاً ليعيد أيام شبابه الأولى، لكنه اكتشف أيضاً، بأنّه لا يحمل في جعبته أي قدرة على العمل خارج ليبيا، ليسافر مجدداً إلى تركيا ويعمل قليلاً داخل أزقة “لالالي” الفرع التركي في مدينة إسطنبول للسوق السوداء الليبية.

في ديسمبر 2020، عاد إلى ليبيا، لازالت بعض الشظايا في الحرب الليبية في جسده، مضيفاً إليها، ملهاة إنسانية درامية، مليئة بالجروح النفسية العميقة المتفتقة والتي لم تضعها الدولة الليبية والأطراف السياسية يوماً في ميزانية علاج المقاتلين. مبالغ قليلة صرفت على تلك الجروح النفسية لا تقارن مع ميزانيات علاج الأجساد وشراء الأسلحة لهم ليضحوا بأطراف أخرى من تلك الأجساد. 

يعمل أصيل هذه الفترة في العقارات. هو حالة “طبيعية” لمحارب ليبي لم يدخل في قتال منذ أكتوبر 2011، هناك العديدون غيره ممن لم يتركوا السلاح منذ عشر سنوات.

ترك أصيل السوق السوداء “زادت حالات النصب والسرقة هناك، مرة عندما كنتُ خارجاً من السوق وقد ركبت سيارتي أوقفني أحدهم شاهراً السلاح اتجاهي، كان يريد مالي”، قال لي في جلساتنا النادرة في المقهى. لازال يبحث عن نوع من السلام الداخلي الذي يجده بعيداً عن التوحد مع نفسه، لازال كغيره من الجرحى الليبيين يدفع ضريبة، قال لي يوماً عنها أنها لا تعوض. كان يقول “الضريبة الوحيدة التي تدفعها في ليبيا هي عمرك”.