fbpx

أب وبنت وجسر جديد للعلاقة مع العالم

صار دافع مراد مؤخرًا للمشاركة في المسابقات هو ابنته ابتسام، تفرض عليه المشاركة وتشاركه التحضير وتحفزّه للحصول على مراتب متقدّمة مقابل أن تنتبه لدروسها وتحصل على نتائج جيّدة في المدرسة.
ــــــــ المـكـانــــــــ جسد
9 يونيو 2023

عندما رأيتُ ابتسام لأول مرةٍ في صالة كمال أجسام في مدينة تقرت (680 كلم جنوب شرق العاصمة الجزائر)، كانت تبلغ من العمر 13 سنة. أتذكر حين دخلت الصالة الرياضية المكتظة  وجدتها جالسةً ترتدي ملابس رياضية وشعرها مُصفّف إلى الخلف كأنها تستعد للتمارين. تساءلتُ حول وجودها وتعجبت أكثر عندما شاهدتها بعد دقائق برفقة مراد، والدها وصاحب المكان، تحمل منشفته وتتبعه في كل زاوية وتساعده في التمارين.

بعدها بأيام استطعت أن ألتقي ابتسام في نفس المكان لكي أتعرف عليها أكثر، تحدثنا حول كمال الأجسام وعن دراستها لكن الموضوع الذي أخذ الحيز الأكبر من حديثنا هو والدها مراد، حدثتني كثيرًا عنه، قالت بأنها تقضي برفقته الكثير من الوقت في قاعة الرياضة، فهمتُ من كلامها أنها تكرس أغلب وقتها لمساعدته وأنها فخورةٌ به.

لا تمارس ابتسام رياضة كمال الأجسام، ولكنها نشأت -وهي أكبر البنات الثلاث والتالية للابن الأول- وسط أجواء القاعة التي أسسها والدها، ومع الوقت صارت أقرب إلى مدربةٍ مساعدة تهتم بكل تفاصيل تدريبه وأكله. بعد نهاية يوم المدرسة وفي أوقات فراغها، تنضم إليه في القاعة وتشرف على تمارينه. تجدها تنظر إلى مراد بعينين حادتين وهو يحضر نفسه للبدء في تمارينه الرياضية المعتادة.

الحياةُ اليومية صعبة في مُدن الجنوب، ليس بسبب المناخ فقط، فالظروف الاجتماعية والاقتصادية تجعل البطالة والتهميش وما تُشبهها من كلمات تُرافق أسماء هذه المُدن كل مرة تُذكرُ فيها. لذلك أعتبر قصة مراد الذي بدأ من الصفر مثيرةً للتأمل.

شخصيًا، أتذكره من أيام المراهقة، كنت أمارس كرة القدم واهتممتُ لفترةٍ بكمال الأجسام فقصدتُ المكان الوحيد المفتوح والذي يقدم هذه الخدمة:  صالة مراد.. هكذا كنا نسميها، لأنه بالحديث عن كمال الأجسام كانت هنالك صالةٌ واحدة.. ومراد واحد. كان ذلك حوالي سنة 2007، وكان قبل مولد ابنته ابتسام.

يبلغ مراد اليوم 45 سنة، كرّس 30 منها تقريبًا لنحت جسمه والاهتمام برياضة كمال الأجسام. قبل مراد لم تكن هناك صالاتٌ رياضة متخصصة، سواء في تُقّرْت أو ضواحيها، ولا رياضيين يمكنه الاستعانة بهم. بدأ اهتمامه بالرياضات القتالية أولًا، فقد استهوته كثيرًا فكرة الجسم الجميل والقوي. سانده والده في مسعاه، وعندما صار سنه فوق 18 سافر لأداء الخدمة العسكرية في شمال البلاد.

كما هو حال الكثير من الشباب، قبل دخول الأنترنت وانتشارها في الجزائر، كانت الخدمة الوطنية هي المرة الأولى التي يتعرف فيها الذكور الجزائريون البالغون سن الرشد على جغرافياتٍ وتواريخ ولهجاتٍ أخرى تختلف عن المكان الذي خرجوا منه. ما عاد مراد يستعمل معداتٍ منزلية لرفع الأثقال يصنعها بيده، بل اكتشف قاعةً مخصّصة لذلك في الثكنة التي قضى بها مدة خدمته الوطنية. أخبرني مثلًا أنه شهد تدريبات فرقة عسكرية لمكافحة الإرهاب ورأى أجسامهم وانضباطهم، واقترب أكثر من الرياضة التي استهوته منذ المراهقة. كان ذلك مع نهاية التسعينات.

بعد انتهاء فترة الخدمة الوطنية عاد مراد إلى تُقّرْت وعمل متطوّعًا في صيدليةٍ بغرض الاقتراب من مجال الأدوية، حيث تصوّر أنه سيتعرّف على دور الكيمياء في مجال كمال الأجسام. وبدأ بالتنقل أسبوعيًا إلى مدينة بسكرة، على بُعد 190 كلم شمالًا، لكي يتدرب في صالةٍ ويعرف أكثر عن طريقة سير الأمور. لتأتي سنة 2004 ويفتتح أول صالةٍ مخصصة لكمال الأجسام بتُقّرت، ويُشارك شباب المدينة خبرته الصغيرة آنذاك.

لم يكتفِ مراد بهذا، بل بدأ بنتظيم مسابقات لكمال الأجسام بتُقّرت، خرج من صالته وطلب تصريحاتٍ لاستغلال المرافق الرياضية العمومية، وجلب الجمهور للتفرج على مجموعة من الرجال يعرضون عضلاتهم المفتولة وأجسامهم التي قضوا شهورًا في العمل عليها. ليشارك مراد بعدها في مسابقاتٍ على مستوى وطني، ويفوز بميدالياتٍ أكثر من مرّة.

كوّن مراد جماعةً حول هوايته وشغفه، تدرّب على يده الكثيرون ووجد زوجةً تدعمه في مشروعه. مع الوقت تفرّقت الجماعة، وسار كلٌ في سبيله، بعضهم افتتحوا صالاتٍ أخرى (توجد اليوم في تُقّرت، التي صارت ولايةً في التقسيم الإداري الجديد منذ 2019، أربع صالات كمال أجسام) وهو الأمر الذي جعل مراد وحيدًا مرةً أخرى. أخبرني مراد أنه وصل إلى فترةٍ في حياته لم تعد فيها مسابقات كمال الأجسام تعني له شيئًا. الميداليات والشهادات التكريمية لا تساوي سوى القليل بالنسبة للتضحيات التي قدمها لهذه الرياضة، فكل ميدالياته وذكرياته يضعها في غرفةٍ صغيرةٍ -لا يدخلها غيره- لا تتعدى مساحتها المترين يملؤها الغبار من كل جانب ويغلق عليها. 

رؤية هذه الغرفة بالإضافة إلى صور الأرشيف التي يحتفظ بها مراد من سنوات الجيش وتأسيس الصالة، جعلتني أفكر في طريقةٍ لأروي بها هذه القصة. وكيف تتحوّل أحداثٌ يومية إلى لحظاتٍ فاصلة ومنعرجات في قصصنا الشخصية. لذلك قرّرت بأن أحتفظ بصور الأرشيف الملونة، بكادراتها البسيطة والفلاش اللامع للكاميرات القديمة، في حين أصنع الصورة الجديدة -من الحاضر- بالأبيض والأسود. كأني أعكس بين الماضي والحاضر في الصور بمفهومه البصري البسيط. فالحاضر أيضًا، أي قصة مراد وابتسام، تصلح لتكون بعد سنواتٍ منعرجًا في تاريخهما الشخصي، فنحن نراها بالأبيض والأسود بوصفها تاريخًا للغد.. أما صور الأرشيف الملونة، فهي لاستعادة الماضي كحاضر.. أو كماضي مستمر.

في فترةِ اليأس تلك، ركّز مراد طاقته على عمله وعائلته، وبالأخص ابنته ابتسام التي أبدت اهتمامًا بشغف والدها. تخبرني ابتسام أنها تأثرت -رغم صغر سنها- بوحدة والدها ورفضت أن تراه في تلك الحال، وهنا بدأت تلعب دورها كسندٍ لمراد. أصبحت تحضر معه  التدريب وتحضر له وجباته بإنتظام وترافقه دائمًا.

شجعته ابتسام للعودة إلى المسابقات، وحرصت على برنامجه في فترات التحضير التي يزداد فيها الضغط وتتطلب التركيز الكبير والعمل. يقول لي مراد أنه تعود على العمل مع ابتسام، يتعامل معها كمساعدة لأنها تحفظ جدول مواعيده كاملًا وتعرف كيف ومتى يتدرب، “أفضل أن أتدرب معها في الصالة لوحدنا.. تعودت على ذلك.. والأمر مريح لأنها تدعمني بشكل استثنائي”، يؤكد مراد.

صار دافع مراد مؤخرًا للمشاركة في المسابقات هو ابنته ابتسام، تفرض عليه المشاركة وتشاركه التحضير وتحفزّه للحصول على مراتب متقدّمة مقابل أن تنتبه لدروسها وتحصل على نتائج جيّدة في المدرسة. بملاحظتي لهذه العلاقة “الرابحة” من الطرفين، اكتشفتُ أن الرياضة التي وهب لها مراد عمره، منحته أعمدةً ليبني فوقها علاقته مع ابنته الكبرى. علاقةٌ تتعدى الصداقة والتواطئ، فكل من يعرف ابتسام يعرف بالضرورة والدها مراد. تتحدّث عنه مع الجميع وتدعو زميلاتها في المدرسة لتحضرن تدريبات مراد، وتُردّد جملتها الأثيرة: “أريد أن يعرفه الجميع”.